فصل: الباب الأول فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العلمية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **


  الباب الأول فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العلمية

وفيه ثلاثة فصول

  الفصل الأول فيما يحتاج إليه الكاتب على سبيل الإجمال

وقد اختلفت مقاصد المصنفين في ذلك‏:‏ فابن قتيبة بعد أن بنى كتابه أدب الكاتب على أمور من اللغة والتصريف وطرف من الهجاء قال‏:‏ وليس كتابنا هذا لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم ولا من الكتابة إلا بالرسم ولم يتقدم من الأداة إلا بالقلم والدواة‏:‏ ولكنه لمن شدا شيئاً من الإعراب فعرف الصدر والمصدر وانقلاب الياء عن الواو والألف عن الياء وأشباه ذلك من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين حتى يعرف المثلث القائم الزاوية والمثلث الحاد والمثلث المنفرج ومساقط الأحجار والمربعات المختلفات والقسي والمدورات والعمودين وتمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر فإن المخبر عنه ليس كالمعاين‏.‏

وذكر أن العجم كانت تقول‏:‏ من مل يكن عالماً بإجراء المياه وحفر فرض المشارب وردم المهاوي ومجاري الأيام في الزيادة والنقصان ودوران الشمس ومطالع النجوم وحال القمر في استهلاله واتصاله ووزن الموازين وذرع المثلث والمربع والمختلف الزوايا ونصب القناطر والجسور والدوالي والنواعير على المياه وحال أدوات الصناع ودقائق الحساب كان ناقصاً في حال كتابته‏.‏

ثم قال‏:‏ ولا بد له مع ذلك من النظر في جمل من الفقه والحديث ودراسة أخبار الناس وحفظ عيون الأخبار ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلاً بها إذا كتب أو يصل بها كلامه إذا حاور‏.‏

وختم ذلك بأن قال‏:‏ ومدار الأمر في ذلك كله على القطب وهو العقل وجودة القريحة فإن القليل معهما بإذن الله تعالى كاف والكثير مع غيرهما مقصر‏.‏

وتابعه أبو هلال العسكري في بعض ذلك فقال في بعض أبواب كتابه الصناعتين‏:‏ ينبغي أن تعلم أن الكتابة تحتاج إلى آلات كثيرة وأدوات جمة‏:‏ من معرفة العربية لتصحيح الألفاظ وإصابة المعنى وإلى الحساب وعلم المساحة والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلة وغير ذلك مما ليس هذا موضع ذكره وشرحه‏.‏

ولا يخفى أن ما ذكره وبعض ما ذكره ابن قتيبة يتواردان فيه في المعنى واختلف اللفظ‏.‏

وخالف أبو جعفر النحاس في كثير من ذلك فذكر في أول كتابه صناعة الكتاب في المرتبة الثانية منه بعد ما يتعلق بالخط‏:‏ أن من أدوات الكتابة البلاغة ومعرفة الأضداد مما يقع في الكتاب والرسائل والعلم بترتيب أعمال الدواوين والخبرة بمجاري الأعمال والدربة بوجوه استخراج الأموال مما يجب ويمتنع‏.‏

ثم قال‏:‏ فهذه الآلات ليس لواحد منها تميز بذاته ولا انفراد باسم يخصه وإنما هو جزء من الكتابة وأصل من أركانها أما الفقه والفرائض والعلم بالنحو واللغة وصناعة الحساب والمساحة والنجوم والمعرفة بإجراء المياه والعلم بالأنساب فكل واحد منها منفرد على حدته وإن كان الكاتب يحتاج إلى أشياء منها نح ما يكتب بالألف والياء وإلى شيء من المقصور والممدود‏.‏

ولو كلف الكاتب ما ذكره من ذكره لجعل الأصعب طريقاً للأسهل والأشق مفتاحاً للأهون وفي طباع الناس النفار عما ألزمهم من جميع هذه الأشياء‏.‏

قلت‏:‏ والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف حال الكتابة بحسب تنوعها فكل نوع من أنواعها يحتاج إلى معرفة فن أو فنون تختص به‏.‏

وقد حكي أن عمرو بن مسعدة وزير المعتصم قال‏:‏ لما خرج المعتصم من بلاد الروم وصار بناحية الرقة قال لي‏:‏ ويلك يا عمرو‏!‏ لم تزل تخدعني حتى وليت عمر بن الفرج الرخجي الأهواز وقد قعد في سرة الدنيا يأكلها خضماً وقضماً‏!‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين فأنا أبعث إليه حتى يؤخذ بالأموال ولو على أجنحة الطير - قال‏:‏ كلا بل تخرج إليه بنفسك كما أشرت به - فقلت لنفسي‏:‏ إن هذه منزلة خسيسة بعد الوزارة أكون مستحثاً لعامل خراج‏!‏ ولم أجد بداً من الخروج رضاً لأمير المؤمنين - فقلت‏:‏ ها أنا خارج إليه بنفسي يا أمير المؤمنين‏!‏ قال‏:‏ فضع يدك على رأسك واحلف أنك لا تقيم ببغداد ففعلت وأحدثت عهداً بإخواني ومنزلي وأتي إلي بزورق ففرش لي فيه ومضيت حتى إذا صرت بين دير هرقل ودير العاقول إذا شاب على الشط يقول‏:‏ يا ملاح‏!‏ رجل غريب يريد دير العاقول فاحملني يأجرك الله‏!‏ - فقلت‏:‏ يا غلام قرب له - فقال‏:‏ جعلت فداك‏!‏ يؤذيك ويضيق عليك - فقلت‏:‏ قرب له لا أم لك‏!‏ فقرب له وحمله على مؤخر الزورق‏.‏

وحضر الطعام فهممت أن لا أدعوه إلى طعامي ثم قلت‏:‏ هلم يا فتى فوثب وجلس فأكل أكل جائع لهم إلا أنه نظيف الأكل فلما فرغ من الطعام أحببت أن يفعل ما يفعل العوام فيتنحى ويغسل يديه ناحية فلم يفعل فغمزه الغلمان ليقوم فلم يفعل فتناومت عمداً لينهض فلم يفعل فاستويت جالساً وقلت يا فتى‏!‏ ما صناعتك فقال جعلت فداك‏!‏ أنا حائك‏.‏

فقلت في نفسي‏:‏ أنا والله جلبت هذه البلية وتغير لوني ففطن أني استثقلته فقال‏:‏ جعلت فداك‏!‏ أنك قد سألتني عن صناعتي فأجبتك فأنت ما صناعتك فقلت‏:‏ هذه والله أضر من الأولى ألا ينظر إلى غلماني ونعمتي فيعلم أن مثل هذا لا يسأل عن الجرفة ولم أجد بداً من الجواب فلم أذهب إلى المرتبة العظمى من الوزارة لكني قربت عليه فقلت‏:‏ أنا كاتب - فقال‏:‏ جعلت فداك‏!‏ الكتاب خمسة فأيهم أنت فأورد علي ما لم أسمع به قبل - فقلت‏:‏ بينهم لي - قال نعم هم كاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف المفصول والموصول والمقصور والممدود والابتداء والجواب حاذقاً بالعقود والفتوح - قلت‏:‏ أجل وماذا قال‏:‏ كاتب خراج يحتاج أن يعرف السطوح والمساحة والتقسيط خبيراً بالحساب والمقاسمات‏.‏

قلت‏:‏ وماذا قال‏:‏ كاتب قاض يحتاج أن يعرف الحلال والحرام والتأويل والتنزيل والمتشابه والحدود القائمة والفرائض والاختلاف في الأموال والفروج - حافظاً للأحكام حاذقاً بالشروط - قلت‏:‏ وماذا قال‏:‏ وكاتب جند يحتاج أن يعرف الحلى والشيات - قلت‏:‏ وماذا قال‏:‏ وكاتب شرطة يحتاج أن يعرف القصاص والجراحات وموضع الحدود ومواقع العفو في الجنايات - قلت حسن‏.‏

قال‏:‏ فأيهم أنت فكنت متكئاً فاستويت جالساً متعجباً من قوله فقلت‏:‏ أنا كاتب رسائل - قال‏:‏ فإن أخاً من إخوانك واجب الحق عليك معتنياً بأمورك لا يغفل منها عن صغير ولا كبير يكاتبك في كل محبوب ومكروه وأنت له على مثل ذلك تزوجت أمه كيف تكتب إليه أتهنيه أم تعزيه - قلت أهنيه‏.‏

قال فهنه فلم يتجه لي شيء - فقلت‏:‏ لا أعزيه ولا أهنيه فقال‏:‏ إنك لا تغفل له عن شيء ولا تجد بداً من أن تكتب إليه - فقلت‏:‏ أقلني فأنا كاتب خراج - قال‏:‏ فإن أمير المؤمنين وجه بك إلى ناحية من عمله وأمرك بالعدل والإنصاف وأنك لا تدع شيئاً من حق السلطان يذهب ضياعاً وحذرك الظلم والجور فخرجت حتى قدمت الناحية فوقفوك على قراح أرض خطه قابل قسياً كيف تمسحه - قلت‏:‏ آخذ وسطه وآخذ طوله فأضربه فيه - قال‏:‏ تختلف عليك العطوف - قلت‏:‏ آخذ طوله وعرضه من ثلاثة مواضع - قال‏:‏ إن طرفيه محدودان وفي تحديده تقويس وذلك يختلف - فأعياني ذلك - فقلت‏:‏ أقلني فأنا كاتب قاض - قال‏:‏ فإن رجلاً هلك وخلف زوجة حرة وسرية حاملتين فوضعتا في ليلة واحدة وضعت الحرة جارية ووضعت السرية غلاماً فوضعت الجارية في مهد السرية فلما أصبحت السرية قالت الغلام لي وقالت الحرة بل هو لي كيف تحكم بينهما - قلت‏:‏ لا أدري فأقلني فأنا كاتب جند قال‏:‏ فإن رجلين من أصحاب السلطان أتياك اسمهما واحد وأحدهما مشقوق الشفة العليا والآخر مشقوق الشفة السفلى ورزق أحدهما مائة والآخر ألف كيف تحليهما - قلت‏:‏ فلان الأعلم وفلان الأعلم قال‏:‏ إذن يجيء هذا ورزقه مائة فيأخذ الألف ويجيء هذا ورزقه ألف فيأخذ المائة - قلت أقلني‏:‏ فأنا كاتب شرطة - قال‏:‏ فإن رجلين تواثبا فشج أحدهما صاحبه موضحة وشجه الآخر مأمومة كيف يكون الحكم فيهما - قلت‏:‏ لا أدري فأقلني قال فقلت‏:‏ إنك قد سألتني فبين لي - قال نعم‏.‏

أما الذي تزوجت أمه فتكتب إليه‏:‏ أما بعد فإن الأمور تجري على غير محاب المخلوقين والله يختار لعباده فخار الله لك في قبضها إليه فإن القبور أكرم الأكفاء والسلام‏.‏

وأما القراح من الأرض فإنك تمسح اعوجاجه حتى تعلم كم قبضة تكون فيه فإذا استوى في يدك عقد تعرفه ضربت طرفه في وسطه‏.‏

وأما الحرة والسرية فيوزن لبنهما فأيهما كان لبنها أخف فالبنت لها‏.‏

وأما المشقوق الشفة العليا فأعلم والمشقوق الشفة السفلى فأفلح‏.‏

وأما المأمومة ففيها ثلث الدية وهي ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث‏.‏

وأما الموضحة ففيها خمس من الإبل‏.‏

فقلت‏:‏ ألست تزعم أنك حائك فقال‏:‏ أنا حائك كلام لا حائك نساجة‏.‏

قال عمرو بن مسعدة‏:‏ فأحسنت جائزته واستصحبته معي حتى عدت إلى المعتصم فسألني عما لقيت في طريقي فقصصت عليه القصة فأعجب به وقال‏:‏ لم يصلح فقلت‏:‏ للعمائر‏.‏

فقرره فيها وعلت رتبته فكنت ألقاه في الموكب النبيل فيترجل لي فأنهاه فيقول‏:‏ هذه نعمتك وأنت أفدتها‏.‏

فقد تبين بهذه الحكاية أن لكل نوع من الكتابة مادة يحتاج إليها بمفردها وآلة تخصها لا يستغنى على أن كاتب الإنشاء في الحقيقة لا يستغني عن علم ولا يسعه الوقوف عند فن فقد قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر إن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء والماشطة عند جلوة العروس وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة فما ظنك بما فوق هذا وذلك‏!‏ لأنه مؤهل أن يهيم في كل واد فيحتاج إلى أن يتعلق بكل فن‏.‏

بل قد قيل إن كل ذي علم يسوغ أن ينسب إليه فيقال فلان النحوي وفلان الفقيه وفلان المتكلم ولا يجوز أن ينسب المتعلق بالكتابة إليها فلا يقال فلان الكاتب لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن‏.‏

وأعلم أن كاتب الإنشاء وإن كان يحتاج إلى التعلق بجميع العلوم والخوض في سائر الفنون فليس احتياجه إلى ذلك على حد واحد بل منها ما يحتاج إليه بطريقة الذات وهي مواد الإنشاء التي يستمد منها ويقتبس من مقاصدها‏:‏ كاللغة التي منها استمداد الألفاظ والنحو الذي به استقامة الكلام وعلوم البلاغة‏:‏ من المعاني والبيان والبديع التي هي مناط التحقيق والتحسين والتقبيح ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى‏.‏

وعلى هذا اقتصر الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر وتبعه على ذلك الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في كتابه حسن التوسل‏.‏

ومنها ما يحتاج إليه بطريق العرض كالطب والهندسة والهيئة ونحوها من العلوم فإنه يحتاج إلى معرفة الألفاظ الدائرة بين أهل كل علم وإلى معرفة المشهورين من أهله ومشاهير الكتب المصنفة فيه لينظم ذلك في خلال كلامه فيما يكتب به من متعلقات كل فن من هذه الفنون كالألفاظ الدائرة بين أهل الطب ومشاهير أهله وكتبه فيما يكتب به لرئيس الطب ونحو ذلك من الهيئة فيما يكتب به لمنجم ونحوه من الهندسة فيما يكتب به لمهندس‏.‏

وربما احتاج إلى معرفة ما هو دون ذلك في الرتبة كمعرفة مصطلح رماة البندق فيما يكتب به في قدمات البندق ومعرفة مصطلح الفتيان فيما يكتب به في دسكره فتوة ونحو ذلك بل ربما احتاج إلى معرفة مصطلح سفل الناس لكتابة أمور هزلية‏:‏ كمعرفة أحوال الطفيلية فيما يكتب به لطفيلي اقترحاً أو امتحاناً للخاطر أو ترويحاً للنفس والشجعان والجواري والغلمان والخيل والإبل وجليل الوحش وسائر أصنافه وجوارح الوحش والطير وطير الواجب والحمام الهدي وسائر أنواع الطير والسلاح بأنواعه وآلات الحصار والآلات الملوكية وآلات السفر وآلات الصيد وآلات المعاملة وآلات اللهو والطرب وآلات اللعب وآلات الشربة والمجدن والحصون والمساجد وبيوت العبادات والرياض والأشجار والأزهار والثمار والبراري والقفار والمفاوز والجبال والرمال والأودية والبحار والأنهار وسائر المياه والسفن والكواكب والعناصر والأزمنة والأنواء والرياح والمطر والحر والبرد والثلج وما يتعلق بكل واحد من هذه الأشياء أو ينخرط في سلكه ونحو ذلك مما تدعو الحاجة إلى وصفه في حالة من حالات الكتابة على ما سيأتي بيانه في آخر الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله تعالى‏.‏

 الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الأولى فيما يحتاج الكاتب إلى معرفته من مواد الإنشاء وفيه ثلاثة اطراف الطرف الأول فيما يحتاج إليه من الأدوات ويشتمل الغرض منه على ثمانية عشر نوعا النوع الأول المعرفة باللغة العربية وفيه أربعة مقاصد المقصد الأول في فضلها وما اختصت به على سائر اللغات أما فضلها فقد أخرج ابن أبي شيبة بسنده إلى أمير المؤمنين عمر نب الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم‏.‏

قال يزيد بن هارون‏:‏ اللحن هو اللغة‏.‏

ولا خفاء أنها أمتن اللغات وأوضحها بياناً وأذلقها لساناً وأمدها رواقاً وأعذبها مذاقاً ومن ثم اختارها الله تعالى لأشرف رسله وخاتم أنبيائه وخيرته من خلقه وصفوته من بريته وجعلها لغة أهل سمائه وسكان جنته وأنزل بها كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏

قال في صناعة الكتاب‏:‏ وقد انقادت اللغات كلها للغة العرب فأقبلت الأمم إليها يتعلمونها‏.‏

وأما ما اختصت به على غيرها من اللغات فقد حكى في صناعة الكتاب أنها اللغة التامة الحروف الكاملة الألفاظ لم ينقص عنها شيء من الحروف فيشينها نقصانه ولمن يزج فيها شيء فيعيبها زيادته وإن كان لها فروع أخرى من الحروف فهي راجعة إلى الحروف الأصلية وسائر اللغات فيها حروف مولدة وينقص عنها حروف أصلية‏:‏ كاللغة الفارسية‏:‏ تجد فيها زيادة ونقصاناً‏.‏

وكذلك يوجد فيها من الأسماء ما لا يوجد في الفارسية وغيرها‏:‏ كالحق والباطل والصواب والخطإ والحلال والحرام فلا ينطق به أهل تلك الأمم اختصاصاً من الله تعالى وكرامة بها ومن خصائصها أن يوجد فيها من الإيجاز ما لا يوجد في غيرها من اللغات‏.‏

قال‏:‏ ومن الإيجاز الواقع فيها أن للضرب كلمة واحدة فتوسعوا فيها فقالوا للضرب في الوجه ضرب على وجهه‏.‏

قال في المثل السائر‏:‏ حضرت مع رجل يهودي عارف باللغات فجري ذكر اسم الجمل فقال‏:‏ لا شك أن العربية أوجز اللغات فإن اسم الجمل بالعبرانية كومل فسقط منه الواو وحولت الكاف إلى الجيم‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وللعرب في كلامها علامات لا يشركهم فيها أحد من الأمم كعلامة إدخالهم الألف واللام في أول الاسم وإلزامهم إياه الإعراب في كل وجه مع نقلهم كل ما احتاجوا إليه من كلام العجم إلى كلامهم فقد نقل ما قالت حكماء العجم والفلاسفة إلى العربية ولم يقدر أحد من الأمم على نقل القرآن إلى لغته لكمال لغة العرب‏.‏

على أن الكثير من الناس حاولوا ذلك فعسر عليهم نقله وتعذرت عليهم ترجمته بل لم يصلوا إلى ترجمة البسملة إلا بنقل بعيد‏.‏

المقصد الثاني في وجه احتياج الكاتب إلى اللغة لامرية في أن اللغة هي رأس مال الكاتب وأس كلامه وكنز إنفاقه من حيث إن الألفاظ قوالب للمعاني التي يقع التصرف فيها بالكتابة وحينئذ يحتاج إلى طول الباع فيها وسعة الخطو ومعرفة بسائطها‏:‏ من الأسماء والأفعال والحروف والتصرف في وجوه دلالتها الظاهرة والخفية‏:‏ ليقتدر بذلك على استعمالها في محالها ووضعها في مواضعها اللائقة بها ويجد السبيل إلى التوسع في العبارة عن الصور القائمة في نفسه فيتسع عليه نطاق النطق وينفسح له المجال في العبارة وينفتح له باب الأوصاف فيما يحتاج إلى وصفه وتدعو الضرورة إلى نعمته فيستظهر على ما ينشيه ويحيط علماً بما يذره ويأتيه إذ المعاني وإن كانت كامنة في نفس المعبر عنها فإنما يقوى على إبرازها وإبانتها من توفر حظه من الألفاظ واقتداره على التصرف فيها‏:‏ ليأمن تداخلها وتكريرها المهجنين للمعاني - وناهيك أن ابن قتيبة لم يضمن كتابه أدب الكاتب غير اللغة إلا النزر اليسير من الهجاء وأبا جعفر النحاس ضمن كتابه صناعة الكتاب جزءاً وافراً من اللغة وأبا الفتح كشاجم لم يزد في كتابه كنز الكتاب على ذكر الألفاظ وصورة تركيبها‏.‏

المقصد الثالث في بيان ما يحتاج إليه الكاتب من اللغة ويرجع المقصود منه إلى خمسة أصناف الصنف الأول الغريب وهو ما ليس بمألوف الاستعمال ولا دائر على الألسنة وذلك أن مدار الكتابة على استخراج المعاني من القرآن الكريم والأحاديث النبوية والشعر وألفاظها لا تخول عن الغريب بل ربما غلب الغريب منها في الشعر على المألوف لا سيما الشعر الجاهلي‏.‏

وقد قال الأصمعي توسلت بالملح ونلت بالغريب‏.‏

قال صاحب الريحان والريعان‏:‏ والغريب وإن لم ينفق منه الكاتب فإنه يجب أن يعلم ويتطلع إليه ويستشرف فرب لفظة في خلال شعر أو خطبة أو مثل نادر أو حكاية فإن بقيت مقفلة دون أن تفتح لك بقي في الصدر منها حزازة تحوج إلى السؤال وإن صنت وجهك عن السؤال رضيت بمنزلة الجهال‏.‏

وقد عاب ابن قتيبة جلاً كتب في وصف برذون‏:‏ وقد بعثت به أبيض الظهر والشفتين‏.‏

فقيل له‏:‏ هلا قلت في بياض الشفتين أرثم المظ‏!‏ فقال لهم‏:‏ فبياض الظهر قالوا لا ندري فقال‏:‏ إنما جهلت من الشفتين ما جهلتم من الظهر‏.‏

وذم قوماً من وجوه الكتاب بأنه اجتمع معهم في مجلس فتداركوا عيب الرقيق فلم يكن فيهم من يفرق بين الوكع والكوع ولا بين الحنف والفدع ولا بين اللمى واللطع ثم قال‏:‏ وأي مقام أخزى لصاحبه من رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء وارتضاه لسره فقرأ عليه يوماً كتاباً فيه مطرنا مطراً كثر عنه الكلأ فقال له الخليفة ممتحناً له‏:‏ وما الكلأ فتردد في الجواب وتعثر لسانه ثم قال‏:‏ لا أدري فقال‏:‏ سل عنه قال أبو القاسم الزجاجي في شرح مقدمة أدب الكاتب‏:‏ وهذا الخليفة هو المعتصم والكاتب أحمد بن عمار وكان يتقلد العرض عليه وكان المعتصم ضعيف البصر بالعربية فما قرأ عليه أحمد بن عمار الكتاب وسأله عن الكلإ فلم يعرفه قال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏!‏ خليفة أمي وكاتب عامي ثم قال‏:‏ من يقرب منا من كتاب الدار فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات وكان يقف على قهرمة الدار فأمر بإشخاصه فلما مثل بين يديه قال له ما الكلأ قال‏:‏ النبات كله رطبه ويابسه فإذا كان رطباً قيل له خلاً وإذا كان يابساً قيل له حشيش وأخذ في ذكر النبات من ابتدائه إلى اكتهاله إلى هيجه فقال المعتصم ليتقلد هذا العرض علينا‏.‏

ثم خص به استوزره‏.‏

فقد ظهر أن معرفة الغريب من الأمور الضرورية للكاتب التي هي من أهم شأنه وأعنى مقاصده‏.‏

وجل كتب اللغة المصنفة في شأنها راجعة إليه كصحاح الجوهري ومحكم ابن سيده ومجمل ابن فارس وغيرها من المصنفات التي لا تكاد تحصى كثرة والصحاح أقربها مأخذاً والمحكم أمثلها طريقة وأكثرها جمعاً وأكملها تحقيقاً‏.‏

وقد صرف قوم من المصنفين العناية من ذلك إلى الاقتصار على ذكر الأسماء والأوصاف‏:‏ كأوصاف الرجال والنساء المحمودة والمذمومة وما يختص من ذلك بالرجل والنساء وأوصاف الذكور والإناث منها وأوصاف الوحوش‏:‏ من السباع والظباء والوعول والبقر والحمر الوحشيين وأسماء الطير‏:‏ من الجوارح الصائدة والطيور المصيدة وبغاث الطير كالرخم وصغاره كالنحل والجراد وأوصاف الهوام كالحشرات‏:‏ من الحيات والوزغ ونحو ذلك وأوصاف العلويات‏:‏ من السماء والسحاب والرياح والأمطار والأزمنة‏:‏ كأوقات الليل والنهار وأوقات الشهر وفصول السنة ونحو ذلك وأسماء النبات‏:‏ من الشجر البري كالطلح والأراك والبستاني كالنخل والعنب والنبات البري كالشيح والقيصوم وأنواع المرعى وأسماء الأماكن‏:‏ من البراري والقفار والرمال والجبال والأحجار والمياه والبحار والأنهار والعيون والسيول والرياض والمحال والأبنية وأسماء جواهر الأرض‏:‏ من اليواقيت ونحوها وسائر مستخرجات المعادن كالنحاس والرصاص وما يجري مجراها ومستخرجات البحر‏:‏ من اللؤلؤ والعنبر والمرجان وغيرها وأسماء المأكولات‏:‏ من الحبوب والفواكه والأطعمة المصنوعة والأطبخة وأسماء الأشربة‏:‏ كالماء واللبن والعسل والخمر وأسماء السلاح‏:‏ من السيوف والرماح والقسي والسهام والدروع وغيرها وأسماء اللباس‏:‏ من الثياب على اختلافها وأسماء الأمتعة والآنية وسائر الآلات وأسماء الطيب‏:‏ من المسك والند والغالية والزعفران وما أشبهها‏.‏

وكذلك كل ما يجري هذا المجرى‏.‏

وكفاية المتحفظ لابن الأجدابي والمذهبة والمعقبة لابن أصبغ كافلتان بالكثير من ذلك‏.‏

وفي أدب الكاتب لابن قتيبة وفقه اللغة للثعالبي الجزء الوافر من ذلك‏.‏

وصرف آخرون عنايتهم إلى التأليف في الأفعال وتصاريفها كابن درستويه وغيره‏.‏

وفي فصيح ثعلب جزء وافر من ذلك ولعصرينا الشيخ مقبل الصرغتمشي النحوي كتاب زاد فيه عليه جمعاً ووضوحاً‏.‏

الصنف الثاني الفروع المتشعبة في المعاني المختلفة وهي فروع كثيرة متسعة الأرجاء متباينة المقاصد لا يكاد يجمعها مصنف وإن كان الكاتب منها المتباين والمترادف‏.‏

فأما المتباين فهو ما دل لفظ الكلمة منه على خلاف ما دلت عليه الكلمة الأخرى كالسواد والبياض والطول والعرض ويحتاج إليه في التعبير عن المعاني المختلفة لاتساع نطاق الكلام‏.‏

وأما المتراف فهو المتوارد الألفاظ على مسمى واحد كالأسد والسبع للحيوان المفترس والتثنية والقلوص للناقة ونحو ذلك‏.‏

ويحتاج إلى معرفة ذلك للمخلص عند ضيق الكلام عليه في موضع لطول لفظه أو قصرها أو اختلاف وزنها في شعر أو رعاية الفاصلة آخر الفقرة في نثر أو غير ذلك مما يضطر فيه إلى إيراد بعض الألفاظ بدل بعض كما في قوله‏:‏ وثنية جاوزنها بثنية حرف يعارضها جنيب أدهم فإنه أراد بالثنية الأولى العقبة وبالثنية الثانية الناقة والجنيب الأدهم استعارة لظلها‏.‏

فالثنية من حيث وقوعها على الناقة والعقبة أوفق للتجنيس من الناقة إذ لو ذكر الناقة مع الثنية التي هي الطريق لفاته التجنيس‏.‏

ومحل الكلام عليهما كتب الفقه ونحوها‏.‏

ومنها الحقيقة والمجاز‏.‏

والحقيقة هي اللفظ الدال على موضوعه الأصلي كالأسد للحيوان المفترس والحمار للحيوان المعروف‏.‏

والمجاز هو ما أريد به غير الموضوع له في أصل اللغة كالأسد للرجل الشجاع بعلاقة الشجاعة في كل منهما والحمار للبليد بعلاقة البلادة في كل منهما ويحتاج إليه لنقل الألفاظ من حقائقها إلى الاستعارة والتمثيل والكناية لما بينهما من العلاقة والمناسبة كاليد فإنها في أصل اللغة للجارحة أطلقت على القوة والنعمة مجازاً من حيث إن القوة تظهر في اليد والنعمة تولى بها ومحل ذكرهما أصول الفقه وما في معناها‏.‏

ومنها الألفاظ المتضادة وهي التي تقع كل لفظة منها على ضد ما تقع عليه الأخرى كالأمانة والخيانة والنصيحة والغش والفتق والرتق والنقض والإبرام ونحو ذلك فإن الكلام كثيراً ما ينبني على الأضداد وربما غلط الكاتب فجعل مقابل الشيء غير ضده فيلزمه النقص في صناعته وفوات ما يقصده من المقابلة والطباق اللذين هما من أحسن أنواع البديع‏.‏

وفي صناعة الكتاب لأبي جعفر النحاس جملة صالحة من ذلك وفي كنز الكتاب لأبي الفتح كشاجم جملة جيدة منه أيضاً‏.‏

ومنها تسمية المتضادين باسم واحد كالجون للأسود والأبيض والقرء للطهر والحيض والصريم لليل والنهار ووراء لخلف وقدام ونحو ذلك‏.‏

ويحتاج إليه للتمييز بين الحقائق التي يقع اللبس فيها‏.‏

وفي أدب الكاتب جملة من ذلك‏.‏

ومنها المقصور والممدود كالندى للجود وندى الأرض والحفا لكلال القدم والحافر والممدود كالسماء للفلك وكل ما علاكن والبقاء لضد الفناء ونحو ذلك ما يجوز فيه المد القصر جميعاً كالزناء والشراء وما أشبههما‏.‏

ويحتاج إليه الكاتب من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها أن الدلالة تختلف باعتبار المد والقصر كلفظ الهوى فغنه إن قصر كان بمعنى هوى النفس وإن مد كان بمعنى ما بين السماء والأرض‏.‏

الثاني أنه إذا أضيف الممدود أضيف المقصور في الكتابة في حالة الرفع وزيادة ياء في حالة الخفض وإذا أضيف بزيادة واو في الكتابة في حالة الرفع وزيادة ياء في حالة الخفض وإذا أضيف المقصور لم يحتج إلى زيادة واو ولا ياء ولو كان مما يجوز فيه المد والقصر جاز فيه بعض حركاته‏.‏

وبما يمد كالبلاء والقلاء فإنه إذا كسر أولهما قصرا وكتبا بالياء وإذا فتح مداً وكتبا بالألف‏.‏

وكالباقلاء فإنه إذا خفف مد وإذا شدد قصر فمتى لم يعرف الكاتب ذلك كان قاصراً في صناعته وفي أدب الكاتب من ذلك جملة‏.‏

ومنها المذكر والمؤنث فإنه تختلف أحواله باعتبار التذكير والتأنيث في كثير من الأمور وذلك أن المؤنث على ضربين‏:‏ أحدهما ما فيه علامة من علامات التأنيث الثلاث وهي الهاء نحو حمزة وطلحة والألف الممدودة نحو حمراء والألف المقصورة نحو حبلى‏.‏

وضرب لا علامة فيه وإنما يؤخذ من السماع‏:‏ كالسماء والأرض والقوس والحرب وما أشبهها‏.‏

وربما كان منه ما يجوز فيه التذكير والتأنيث كالطريق والسبيل والموسى واللسان والسلطان وما أشبهها فإن من العرب من يذكر ذلك ومنهم من يؤنثه‏.‏

وربما وقع لفظ التأنيث على الذكر والأنثى جميعاً كالسخلة والحية والحمامة والنعامة والبطة ونحوها‏.‏

وأيضاً فإن من وصف المؤنث ما يحذف منه الهاء باعتبار تأويل آخر كصيغة فعيل‏:‏ فإنه إن كان بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول وخضيب بمعنى مخضوب حذفت الهاء من مؤنثه‏:‏ فيقال امرأة قتيل وكف خضيب وما أشبه ذلك وإن كان بمعنى فاعل كعليم بمعنى عالم ورحيم بمعنى راحم تثبت الهاء في مؤنثه فتقول فيه عليمة ورحيمة‏.‏

وعلى العكس من ذلك فعول فإنه إن كان بمعنى فاعل كان بغير هاء نحو امرأة صبور وشكور بمعن المحلوبة والركوبة بمعنى المركوبة وصيغة مفعل مما لا يوصف به الذكور تكون بغير هاء كامرأة مرضع فإن أرادوا الفعل قالوا مرضعة وصيغة فاعل مما لا يكون وصفاً لمذكر تكون بغير هاء أيضاً نحو امرأة طالق وحامل وربما حذفت الهاء مما يكون للمذكر والمؤنث جميعاً فتقول امرأة عاقر ورجل عاقر‏.‏

وفي أدب الكاتب وفصيح ثعلب جملة من ذلك‏.‏

وفي كتب النحو المبسوطة قواعد موصلة إلى مقاصده‏.‏

ومنها المهموز وغير المهموز فإن المعنى قد يختلف في اللفظ الواحد باعتبار الهمز وعدمه‏:‏ كما تقول عبأت المتاع بالهمز وعبيت الجيش بغير همز وبارأت الكري بالهمز من الإبراء وباريت فلاناً من المفاخرة بغير همز‏.‏

وتقول زنى من الزنا بغير همز وزنا في الجبل إذا رقي فيه ونحو ذلك‏.‏

وربما جاء الهمز وعدمه في الكلمة الواحدة كما تقول شئت بالهمز وشيت بإسكان الياء من غير همز ونحو ذلك‏.‏

فمتى لم يكن الكاتب عارفاً بالهمز ومواضعه ضل ي طريق الكتابة‏.‏

وفي أدب الكاتب باب مفرد لذلك‏.‏

ومنها ما ورد من كلام العرب مزدوجاً كقولهم الطم والرم يريدون بالطم البحر وبالرم الثرى وكقولهم الحجر والمدر فالحجر معروف والمدر التراب الندي ونحو ذلك‏.‏

فإذا عرف الكاتب ذلك تمكن من وضعه في مواضعه لتحسين الكلام وتنميقه في الطباق والمقابلة وفي أدب الكاتب نبذة من ذلك‏.‏

ومنها ما ورد من كلامهم مثنى إما على سبيل التغليب‏:‏ كقولهم القمران يريدون الشمس والقمر والعمران يريدون أبا بكر وعمر وإما على الحقيقة‏:‏ كقولهم ذهب منه الأطيبان يريدون الأكل والكاح واختلف عليه الملوان أو الجديدان يريدون الليل والنهار ونحو ذلك وفي أدب الكاتب أيضاً طرف منه‏.‏

ومنها ما ورد من كلام العرب مرتباً كقولهم أول النوم النعاس وهو الاحتياج إلى النوم ثم الوسن وهو ثقل النعاس ثم الكرى والغمض وهو أن يكون بين النائم واليقظان ثم التغفيق وهو النوم وأنت تسمع كلام القوم ثم الإغفاء وهو النوم الخفيف ثم التهجاع وهو النوم القليل ثم الرقاد وهو النوم الطويل ثم الهجوع وهو النوم الغرق ثم التسبيخ وهو أشد النوم وما أشبه ومنها ما ورد من كلامهم مورد الدعاء‏:‏ إما على بابه‏.‏

استأصل الله شأفته يريدون أذهب الله أثره كما يذهب أثر الشأفة وهي قرحة تخرج من القدم فتكوى فتذهب وقولهم أباد الله خضراءهم أي سوادهم ومعظمهم‏.‏

أولم يقصد به حقيقة الدعاء كقولهم تربت يداك أي ألصفت بالتراب من الفاقة وقولهم أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغم وهم لا يقصدون به الدعاء‏.‏

وفي أدب الكاتب جملة من ذلك‏.‏

ومنها ما تختلف أسماؤه مع المشابهة في المعنى كالظرف للإنسان أو الحافر للفرس والبغل والحمار والظلف للبقر والمنسم للبعير والبرثن للسباع وما يجري هذا المجرى‏.‏

وفي فقه اللغة جزء وافر منه‏.‏

ومنها ما تختلف أسماؤه وأوصافه باختلاف أحواله كالكأس لا يقال فيه كأس إلى إذا كان في شراب وإلا فهو قدح ولا مائدة إلا إذا كان عليها طعام وإلا فهي خوان ولا قلم إلا كان مبرياً وإلا فهو أنبوبة ولا خاتم إلا وفيه فص وإلا فهو فتخة ونحو ذلك وفي فقه اللغة جملة منه‏.‏

ومنها معرفة الأصول التي تشتق منها الأسماء كتسمية القمر قمراً لبياضه إذ الأقمر هو الأبيض وكتسمية ليلة الرابع عشر من الشهر ليلة البدر لمبادرة الشمس القمر بالطلوع أو لتمامه وأمتلائه حينئذ من حيث إن كل تام يقال له بدر وكتسمية النجم نجماً أخذاً من قولهم نجم إذا طلع ومنها ما نطقت به العجم على وفق لغة العرب لعدم وجوده في لغتهم وهو المعرب كالكف والساق والدلال والوزان والصراف والجمال والقصاب والبيطار وما أشبه ذلك وفي فقه اللغة جزء من ذلك كاف‏.‏

ومنها ما اشترك فيه العربية والفارسية كالتنور والخمير والدينار والدرهم والصابون وما أشبه ذلك وفي فقه اللغة أيضاً نبذة منه‏.‏

ومنها ما اضطرت العرب إلى تعريبه واستعماله في لغتهم من اللغة العجمية كالكوز والإبريق الطست والخوان والطبق وغيرها من الآنية والسكباج والزيرباج والطباهج والجوذاب ونحوها من الأطعمة والجلاب والسكنجبين ونحوهما من الأشربة والخولنجان والكافور والصندل وغيرها من الأفاويه والطيب ونحو ذلك وفي فقه اللغة من ذلك جملة جيدة‏.‏

إلى غير ذلك من الأمور التي لا يسع استيفاؤها مما في أدب الكاتب وفقه اللغة الكثير منه‏.‏

ومنها ما تعددت لغاته ولتعلم أن لغة العرب متعددة اللغات متسعة أرجاء الألسن بحيث لا تساويها في ذلك لغة‏.‏

فمن ذلك ما فيه لغتان كقولهم رطل بكسر الراء وفتحها وسَم وسُم بفتح السين وضمها وما فيه ثلاث لغات مثل برقُع بضم القاف وبرْقَع بفتحها وبُرْقُوع بضم الباء وزيادة الواو وخاتِم بكسر التاء وخاتَم بفتحها وخَيْتام وما فيه أربع لغات مثل نَطْع بكسر النون وفتحها وسكون الطاء ونَطَع بفتح النون والطاء جميعاً وكسر النون وصَدَاق بفتح الصاد وصِدَاق بكسرها وصُداق بضمها وصُدْقة بضم الصاد وسكون الدال وما فيه خمس لغات كقولهم رِيح الشَّمال بفتح الشين من غير همز والشَّمْأل بالهمز والشَّامَل بغير همز والشَّمَل بفتح الميم والشَّمْل بسكونها وما فيه ست لغات كفُسْطاط بضم الفاء وفِسْطاط بكسرها وفُسْتاط بضم الفاء وإبدال الطاء تاء وفِسْتاط بكسر الفاء وفُسَّاط بضم الفاء وتشديد السين وفِسَّاط بكسر الفاء وما فيه تسع لغات كالأَنْملة بفتح الهمزة وضمها وكسرها مع فتح الميم وضمها وكسرها وما فيه عشر لغات كالأصبع بفتح الهمزة وضمها وكسرها مع فتح الباء وضمها وكسرها والعاشر أُصبْوع‏.‏

وفي أدب الكاتب جملة من هذا النمط‏.‏

الصنف الثالث الفصيح من اللغة وأعلم أن اللغة العربية قد تنوعت واختلفت بحسب تنوع العرب واختلاف ألسنتهم والذي اعتمده حذاق اللغة وجهابذة العربية من ذلك ما نطق به فصحاء العرب وهم الذين حلوا أوساط بلاد العرب ولم يخالطهم من سواهم من الأمم كثير مخالطة ولم يصاقبوا بلاد العجم فبقيت ألفاظهم سالمة من التغيير والاختلاط بلغة غيرهم‏:‏ كقريش وهذيل وكنانة وبعض تميم وقيس عيلان ونحوهم من عرب الحجاز وأوساط نجد‏.‏

بخلاف الذين حلوا في أطراف بلاد العرب وجاوروا الأعاجم فتغيرت ألفاظهم بمخالطتهم‏:‏ كحمير وهمدان وخولان والأزد‏:‏ لمجاورتهم بلاد الحبشة وطيء وغسان‏:‏ لمجاورتهم بلاد الروم بالشام وبعض تميم وعبد القيس‏:‏ لمجاورتهم أهل الجزيرة وفارس‏.‏

وأعلم أن التغيير يدخل في لغة العب من عدة وجوه‏:‏ منها أن تبدل كلمة بغيرها‏:‏ كما يستعمل أهل اللغة الحميرية ثب بمعنى اجلس وهي في عامة لغة العرب للأمر بالطفرة‏.‏

قال القاضي الرشيد في شرح أمنية الألمعي‏:‏ وربما غلبت العجمة على أحدهم حتى لا يفهم عنه شيء‏.‏

ومنها أن تبدل حرفاً من الكلمة بحرف آخر‏:‏ كما تبدل حمير كاف الخطاب شيناً معجمة فيقولون في قلت لك قلت لش وربما أبدلوا التاء أيضاً كافاً فيقولون في قلت قلك وكما تبدل ربيعة الباء الموحدة ميماً فيقولون في بكر مكر ونحو ذلك وكما يبدل بعض العرب الصاد المهملة بالسين المهملة فيقولون في صابر سابر وكما يبدل بعضهم الطاء المهملة بتاء مثناة فوق فيقولون في طال تال وتسمع من عرب أهل الشرق كثيراً وكما يبدل قول التاء المثناة فوق بضاد معجمة فيقولون في أتر أضر‏.‏

ومنها أن يعاقب بين حرفين في الكلمة كما يقول بعضهم في بلخ فلخ وفي أصبهان أصفهان‏.‏

ومنها أن يأتي بحرف بين حرفين فيأتون بكاف كجيم فيقولون في كمل جمل‏.‏

قال ابن دريد‏:‏ وهي لغة في اليمن كثيرة في أهل بغداد ويأتون بجيم ككاف على العكس من الأول فيقولون في رجل ركل يقربونها من الكاف ويأتون بشين معجمة كجيم فيقولون في اجتمعوا اشتمعوا ويأتون بصاد مهملة كزاي فيقولون في صراط زراط ويأتوت بجيم كزاي فيقولون في جابر زابر ويأتون بقاف بين القاف والكاف المعقودة قاله ابن سعيد عن سماعه من العرب ولا يكاد يوجد منهم من ينطق بها على أصلها الموصوف في كتب النحويين‏.‏

وقد ذكر الشيخ أثير الدين أبو حيان ذلك جميعه في شرحه على تسهيل ابن مالك‏.‏

الصنف الرابع ما تلحن في العامة وتغيره عن موضعه بأن يكون مفتوح الأول والعامة تكسره‏:‏ كقولهم في جَفْن العين بفتح الجيم جِفْن بكسرها أو مفتوح الأول والعامة تضمه‏:‏ كقولهم في القَبُول الذي هو خلاف الردّ قُبُول بضمها أو مكسور الأول والعامة تفتحه‏:‏ كقولهم في دِرْهم بكسر الدال دَرْهِم بفتحها أو مكسور الأول والعامة تضمه‏:‏ كقولهم في التِّمساح بكسر التاء تُمساح بضمها أو مضموم الأول والعامة تفتحه‏:‏ كقولهم في العُصْفور بضم العين عَصْفور بفتحها أو مضموم الأول والعامة تكسره‏:‏ كقولهم في الظُّفُر بضم الظاء ظِفر بكسرها أو مفتوح الوسط‏:‏ كقولهم في القالَب بفتح اللام قالِب بكسرها أو مكسور الوسط والعامة تفتحه‏:‏ كقولهم في الرجل المُوَسْوِس والبُرِّ المسّوِّس والجبن المدوِّد بكسر الواو في الثلاثة‏:‏ مُوسوس ومُسّوَّس ومدوَّد بفتحها أو مضموم الوسط والعامة تفتحه كقولهم في الجُدُد جمع جديد جُدَد بفتحها أو محرك الوسط والعامة تسكنه‏:‏ كقولهم في التُّحَفة بفتح الحاء وتُحْفة بإسكانها أو ساكن الوسط والعامة تحركه‏:‏ كقولهم في الحلْقة بإسكان اللام حَلَقة بفتحها أو مشدداً والعامة تخففه‏:‏ كقولهم في العاريَّة بتشديد الياء عارِيَة بتخفيفها أو مخففاً والعامة تشدده‏:‏ كقولهم في الكرَاهِيَة بتخفيف الياء كراهيَّة بتشديدها أو مهموزاً والعامة تحذف الهمز من أوله‏.‏

كقولهم في الإهليلج بإثبات همزة في أوله هليلج بحذفها أو مهموز الوسط والعامة تسهله‏:‏ كقولهم في المرءاة بإثبات الهمزة مراة بحذفها أو غير مهموز الأول والعامة تثبت الهمزة في أوله‏:‏ كقولهم في الكرة أكرة أو كان بالظاء المعجمة فجعلته بالضاد المعجمة كالوظيفة ونوها أو بالضاد فجعلته بالظاء‏:‏ كقول بعضهم في البيضة بيظة أو بالذال المعجمة فجعلته بالدال المهملة كالذراع أو كان بالجيم فجعلته بالتاء المثناة فوق‏:‏ كقولهم في دخاريص القميص تخاريص ونحو ذلك مما شاع وذاع وفي أدب الكاتب لابن قتيبة نبذة من لحن أهل المشرق وكتاب تثقيف اللسان لابن مكي التونسي موضوع في لحن أهل الغرب وفصيح ثعلب مشتمل على كثير من هذا المقصد‏.‏

وهي ألفاظ انتخبها الكتاب وانتقوها من اللغة استحساناً لها وتميزاً لها في الطلاوة والرشاقة على غيرها‏.‏

قال الجاحظ ما رأيت أمثل طريقة من هؤلاء الكتاب فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً حوشياً ولا ساقطاً سوقياً‏.‏

وقد ذكر ابن الأثير في المثل السائر‏:‏ أن الكتاب غربلوا اللغة وانتقوا منها ألفاظاً رائقة استعملوها‏.‏

ثم هذه الألفاظ أسماء وأفعال‏:‏ فالأسماء كقولك في المدح فلان غرة القبيلة وسنامها وذؤابتها وذروتها وهو نبعة أرومته وأبلق كتيبته ومدرة عشيرته ونحو ذلك والأفعال كقولك في إصلاح الفاسد‏:‏ أصلح الفاسد ولم الشعث ورأب الشعب وضم النشر ورم الرث وجمع الشتات وجبر الكسر وأسا الكلم ورقع الخرق ورتق الفتق وشعب الصدع‏.‏

وفي كتاب الألفاظ لعبد الرحمن بن عيسى الكاتب كفاية من ذلك وله مختصر أربى عليه وفي كنز الكتاب لكشاجم ما فيه مقنع‏.‏

المقصد الرابع في كيفية تصرف الكاتب في الألفاظ اللغوية وتصريفها في وجوه الكتابة لا خفاء أنه إذا أكثر من حفظ الألفاظ اللغوية وعرف الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد والمتقاربة المعاني تمكن من التعبير عن المعاني التي يضطر إلى الكتابة فيها بالعبارات المختلفة والألفاظ المتباينة وسهل عليه التعبير عن مقصوده وهان عليه إنشاء الكلام وترتيبه‏.‏

وفي الأمثلة التي أوردها كشاجم في كنز الكتاب حيث يعبر عن المعنى الواحد بعبارات متعددة ما يرشد إلى الطريق في ذلك يهدي إلى سلوك الجادة الموصلة إلى القصد منه‏.‏

وهذه نسخة مكاتبة منه في التهنئة بمولود يستضاء بها في ذلك وهي‏:‏ قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها أرومة رسخت عروقها شجرة زكت غصونها فرع شرفت منابته معدن زكت علائقه جوهر شاعت مكارمه عنصر بسقت فروعه محتد ذاعت محامده أصل نجبت مآثره سنخ خلصت مناقبه نصاب صرحت مفاخره نجر نمت مساعيه أصل فضلت معالمه عنصر نصرت محاسنه منتمى كثرت مناقبه‏.‏

فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم مظاهر في محو ثرى الإفضال ذخيرة نفيسة لذوي الآمال نعمة كاملة السعادة غبطة تصل إلى الأحرار ابتهاج لذوي الأخطار‏.‏

فتولى الله نعمه عندك بالحراسة الوافية بالولاية الكافية الكفاية المتظاهرة الدفاع الكالي الحفاظ الداعي الصنع الجميل الدفاع الحسن العافية المتكاتفة‏.‏

وبلغني الخبر بهبة الله المستجدة الولد المبارك الفرع الطيب السليل الرضي الولد الصالح الابن السار الثمرة المثمرة السلالة الزكية النجل الميمون الذي عمر أفنية السيادة‏.‏

زاد في مواثيق العهد والرياسة أرسى قواعد السيادة ثبت أساس الرفعة أوثق عر المجد مكن أركان الفضل وطد أساس المكارم أكد علائق الشرف أبد أواخي الكرم أبرم حبال الجود أمر أسباب الطول شيد بنيان الكمال أحصف أيدي السماحة أحكم قوى الرجاحة أوثق عقد العلا رفع دعائم الظهارة أنار أعلام الغارة أظهر علامات الخير‏.‏

فتباشرت به ابتهجت اجتذلت اغتبطت فرحت سررت استبشرت‏.‏

جعله الله براً تقياً سيداً حميداً ميموناً مباركاً طيباً عزيزاً سعيداً ظهيراً عوناً ناصراً راجحاً زكياً وزراً ملجأ‏.‏

يتقيل سلفه ويقتفي أثرهم يسلك منهاجهم يسن سنتهم يتبع قصدهم يسير سيرتهم يسعى مساعيهم ينحو مثالهم يحذو حذوهم يتخلق بأخلاقهم يتبصر بصيرته من ينوط أفعالهم يترسم رسومهم‏.‏

وأيمن به عددك كثر به ذريتك أراك فيه غاية أملك شفعه الله بإخوة بررة وفقه الله لأداء حقك جعله خير خلف كما هو لخير سلف‏.‏

زين به العشيرة وهب له النماء بلغ به أكلأ العمر مكن له في رفيع المراتب حقق فيه فراستك وهب له تمام الفضيلة وأوزعك الشكر عليه أجارك فيه من الثكل سرك بفائدته أسعدك برؤيته أطاب عيشك به متعك بعطيته ألهمك شكر ما خولك واصل لك المزيد برحمته‏.‏

فإنه إذا أراد الكاتب أن يستخرج من ألفاظ هذا الكتاب عدة كتب بتهنئة بولد فعل‏.‏

كما إذا قال‏:‏ قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم فتولى الله نعمه عندك بالحراسة وبلغني الخبر بهبة الله الجديدة المستجدة الولد المبارك الذي عمر أفنية السيادة فتباشرت به جعله الله تعالى براً تقيا يتقيل سلفه وأيمن به عددك وأوزعك الشكر عليه وواصل لك المزيد برحمته كان ذلك كتاباً كافياً في هذا النوع‏.‏

فتأمل ذلك وقس عليه‏.‏

النوع الثاني المعرفة باللغة العجمية وهي كل ما عدا العربية من التركية والفارسية والرومية والفرنجية والبربرية والسودان وغيرهم وفيه مقصدان‏.‏

المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إلى معرفة اللغات العجمية لا يخفى أن الكاتب يحتاج في كماله إلى معرفة لغة الكتب التي ترد عليه لملكه أو أميره ليفهمها ويجيب عنها من غير إطلاع ترجمان عليها فإنه أصون لسر ملكه وأبلغ في بلوغ مقاصده‏.‏

وقد روى محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة بسنده إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنه يرد علي أشياء من كلام السريانية لا أحسنها فتعلم كلام السريانية ‏"‏‏!‏ فتعلمتها في ستة عشر يوماً وفي رواية قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أتحسن السريانية فإنه يأتيني كتب بها ‏"‏ قلت لا‏.‏

قال ‏"‏ فتعلمها ‏"‏‏!‏ فتعلمتها في سبعة عشر يوماً فكنت أجيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأ كتب يهود إذا وردت عليه وفي رواية قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا زيد تعلم كتاب يهود فإني والله لا آمن يهود على كتابي ‏"‏ قال‏:‏ فتعلمت كتابتهم فما مر لي ست عشرة ليلة حتى حذقته فكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه وأجيب إذا كتب وفي رواية العبرانية بدل السريانية‏.‏

قال محمد بن عمر المدائني‏:‏ بل قد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفهم اللغات كلها وإن كان عربياً لأن الله تعالى بعثه إلى الناس كافة ولم يكن الله بالذي يبعث نبياً إلى قوم لا يفهم عنهم ولذلك كلم سلمان بالفارسية‏.‏

وساق بسنده إلى عكرمة أنه قال‏:‏ سئل ابن عباس هل تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفارسية قال نعم دخل عليه سلمان فقال له درسته وسادته قال محمد بن أميل‏:‏ أظنه مرحباً وأهلاً‏.‏

وحينئذ فيكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر زيداً بتعلم كتابة السريانية أو العبرانية لتحريم الكتابة عليه لا أنه أمره بتعلم لغتهم‏.‏

المقصد الثاني في بيان ما يتصرف فيه الكاتب من اللغة العجمية اعلم أن الذي ينبغي له تعلمه من اللغات العجمية هو منا تتعلق به حاجته في المخاطبة والمكاتبة‏.‏

أما المخاطبة فبأن يكون لسان ملكه بعض الألسن العجمية أو كان الغلاب عليه لسان عجمي مع معرفته بالعربية‏:‏ كما غلبت اللغة التركية على ملوك الديار المصرية وكما غلبت اللغة الفارسية على ملوك بلاد العراق وفارس وكما غلب لسان البربر على ملوك بلاد المغرب مع تبعية عسكر كل ملك في اللسان الغالب عليه له في ذلك فيحتاج الكاتب إلى معرفة لسان السلطان الذي يتكلم به هو وعسكره ليكون أقرب إلى حصول قصده‏:‏ من فهم الخطاب وتفهيمه وسرعة إدراك ما يلقى إليه من ذلك وتأدية ما يقصد تأديته منهن مع ما يحصل له من الحظوة والتقريب بالموافقة في اللسان فإن الشخص يميل إلى من يخاطبه بلسانه لا سيما إذا كان يتكلم بالتركية‏:‏ من العلماء والكتاب ومن في معناهم على ما هو معلوم مشاهد‏.‏

وأما المكاتبة فبأن يكون يعرف لسان الكتب الواردة على ملكه ليترجمها له ويجيب عنها بلغتها التي وردت بها فإن في ذلك وقعاً في النفوس واستجلاباً للقلوب وصوناً للسر عن اطلاع ترجمان عليه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لزيد ابن ثابت بتعلم السريانية أو العبانية على ما تقدم ظاهر في طلب ذلك من الكاتب وحثه عليه‏.‏

ثم اللغات العجمية على ضربين‏:‏ أحدهما ما له قلم يكتب به في تلك اللغة كالغة الفارسية واللغة الرومية واللغة الفرنجية ونحوها فإن كل منها قلما يخصه يكتب به في تلك اللغة‏.‏

والثاني ما ليس له قلم يكتب به وهي لغات القوم الذين تغلب عليهم البداوة كالترك والسودان‏.‏

ولأجل ذلك ترد الكتب من القانات ملوك الترك ببلاد الشمال المعروف في القديم ببيت بركة والآن بمملكة أزبك باللغة المغلية بالخط العربي وترد الكتب الصادرة عن ملوك السودان باللفظ العربي والخط العربي‏.‏

أما اللغات التي لها أقلام تخصها فإن كتبهم ترد بخطهم ولغتهم‏:‏ كالكتب الواردة من ملوك الروم والفرنج ونحوهما ممن للغته قلم يخصه على اختلاف الألسنة واللغات‏.‏

النوع الثالث المعرفة بالنحو وفيه مقصدان المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إليه لا نزاع أن النحو هو قانون اللغة العربية وميزان تقويمها وقد تقدم في النوع الأول أن اللغة العربية هي رأس مال الكاتب وأس مقاله وكنز إنفاقه‏.‏

وحينئذ فيحتاج إلى المعرفة بالنحو وطرق الإعراب والأخذ في تعاطي ذلك حتى يجعله دأبه ويصيره ديدنه‏:‏ ليرتسم الإعراب في فكره ويدور على لسانه وينطلق به مقال قلمه وكلمه ويزول به الوهم عن سجيته ويكون على بصيرة من عبارته‏.‏

فإنه إذا أتى من البلاغة بأعلى رتبة ولحن في كلامه ذهبت محاسن ما أتى به وانهدمت طبقة كلامه وألغي جميع ما حسنه ووقف به عند ما جهله‏.‏

قال في المثل السائر‏:‏ وهو أول ما ينبغي إثبات معرفته على أنه ليس مختصاً بهذا العلم خاصة بل بكل علم لا بل ينبغي معرفته لكل أحد ينطق باللسان العربي ليأمن معرة اللحن‏.‏

قال صاحب الريحان والريعان‏:‏ ولم يزل الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحثون على تعلم العربية وحفظها والرعاية لمعانيها إذ هي من الدين بالمكان المعلوم والمحل المخصوص‏.‏

قال عثمان المهري‏:‏ أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء ويذكر فيها‏:‏ تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة‏.‏

وكان لخالد بن يزيد بن معاوية أخ فجاءه يوماً فقال‏:‏ إن الوليد بن عبد الملك يعبث بي ويحتقرني فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده فقال يا أمير المؤمنين‏!‏ إن الوليد قد احتقر ابن عمه عبد الله واستصغره وعبد الملك مطرق فرقع رأسه وقال‏:‏ ‏"‏ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ‏"‏ الآية فقال خالد ‏"‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية ‏"‏ الآية فقال عبد الملك‏:‏ أفي عبد الله تكلمني وقد دخل علي فما أقام لسانه لحناً فقال خالد‏:‏ أفعلي الوليد تعول فقال عبد الله يلحن فإن أخاه خالد في كلام كثير طويل ليس هذا موضع ذكره‏.‏

وقال الرشيد يوماً لبنيه‏:‏ ما ضر أحدكم لو تعلم من العربية ما يصلح به لسانه أيسر أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده وأمته‏.‏

ومن كلام مالك بن أنس الإعراب حلي اللسان فلا تمنعوا ألسنتكم حليها‏.‏

ولله در أبي سعيد البصري‏.‏

حيث يقول‏:‏ النحو يبسط من لسان الألكن والمرء تكرمه إذا لم يلحن وإذا طلبت من العلوم أجلها فأجلها عندي مقيم الألسن قال صاحب الريحان والريعان‏:‏ واللحن قبيح في كبراء الناس وسراتهم كما أن الإعراب جمال لهم وهو يرفع الساقط من السلفة ويرتقي به إلى مرتبة تلحقه بمن كان فوق نمطه وصنفه‏.‏

قال‏:‏ وإذا لم يتجه الإعراب فسد المعنى فإن اللحن يغير المعنى واللفظ ويقلبه عن المراد به إلى ضده حتى يفهم السامع خلاف المقصود منه‏.‏

وقد روي أن إعرابياً سمع قارئاً يقرأ ‏"‏ إن الله بريء من المشركين ورسوله ‏"‏‏.‏

بجر رسوله فتوهم عطفه على المشركين فقال‏:‏ أو بريء الله من رسوله فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية‏.‏

على أن الحسن قد قرأها بالجر على القسم وقد ذهب على الأعرابي فهم ذلك لخفائه‏.‏

وقرأ آخر‏:‏ ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ برفع الأول ونصب الثاني فوقع في الكفر بنقل فتحة إلى ضمة وضمة إلى فتحة فقيل له‏:‏ يا هذا إن الله تعالى لا يخشى أحداً‏!‏ فتنبه لذلك وتفطن له‏.‏

وسمع أعرابي رجلاً يقول‏:‏ أشهد أن محمداً رسول الله بفتح رسول الله فتوهم أنه نصبه على النعت فقال يفعل ماذا‏.‏

وقال رجل لآخر ما شأنك بالنصب فظن أنه يسأله عن شين به فقال عظم في وجهي‏.‏

وقال رجل لأعرابي‏:‏ كيف أهلك بكسر اللام وهو يريد السؤال عن أهله فتوهم أنه يسأله عن كيفية هلاك نفسه فقال صلباً‏.‏

ودخل رجل على زياد بن أبيه فقال‏:‏ إن أبونا مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله‏.‏

فقال زياد‏:‏ للذي أضعته من كلامك أضر مما أضعته من مالك وقيل لرجل من أين أقبلت فقال من عند أهلونا فحسده أخر حين سمعه وظن ذلك فصاحة فقال أنا والله أعلم من أين أخذها من قوله‏:‏ ‏"‏ شغلتنا أموالنا وأهلونا ‏"‏‏.‏

فأضحك كل منهما من نفسه‏.‏

قال صاحب الريحان والريعان‏:‏ وكان من يؤثر عقله من الخلفاء يعاقب على اللحن وينفر من خطإ القول ولا يجيز أن يخاطب به في الرسائل البلدانية ولا أن يوقف به على رؤوسهم في الخطب المقامية قال‏:‏ وهو الوجه‏.‏

فأنديتهم مطلب الكمال ومظان الصواب في إحكام الأفعال فكيف في إحكام الأقوال‏.‏

قال ابن قادم النحوي‏:‏ وجه إلي إسحاق بن إبراهيم المصعبي وهو أمير فأحضرني فلم أدر ما السبب فلما قربت من مجلسه تلقاني كاتبه على الرسائل ميمون بن إبراهيم وهو على غاية الهلع والجزع فقال لي بصوت خفي إنه إسحاق‏!‏ ومر غير متلبث حتى رجع إلى إسحاق فراعني ما سمعت فلما مثلت بين يديه قال كيف يقال وهذا المال مال أو وهذا المال مالاً فعلمت ما أراد ميمون الكاتب فقلت له الوجه وهذا المال مال ويجوز وهذا المال مالاً فأقبل إسحاق على ميمون كاتبه بغلظة وفظاظة ثم قال‏:‏ الزم الوجه في كتبك ودع ما يجوز‏!‏ ورمى بكتاب كان في يديه فسألت عن الخبر فإذا بميمون قد كتب عن إسحاق إلى المأمون وهو ببلاد الروم وذكر مالاً حمله إليه فقال‏:‏ وهذا المال مالاً فخط المأمون على الموضع من الكتاب ووقع بخطه في حاشيته‏:‏ تكاتبني باللحن ويقال إنه لم يتجاوز موضع اللحن في قراءة الكتاب فقامت عند إسحاق فكان ميمون الكاتب بعد ذلك يقول‏:‏ لا أدري كيف أشكر ابن قادم بقى علي روحي ونعمتي‏.‏

ووقف بعض الخلفاء على كتاب لبعض عماله فيه لحن في لفظه فكتب إلى عامله‏:‏ قنع كاتبك هذا سوطاً معاقبة على لحنه‏.‏

قال أحمد بن يحيى‏:‏ كان هذا مقدار أهل العلم وبحسبه كانت الرغبة في طلبه والحذر من الزلل‏.‏

قال صاحب الريحان والريعان‏:‏ فكيف لو أبصر بعض كتاب زماننا هذا قلت قد قال ذلك في زمانه هو وفي الناس بعض الرمق والعلم ظاهر وأهله مكروون وإلا فلو عمر إلى زماننا نحن لقال ‏"‏ تلك أمة قد خلت ‏"‏‏.‏

ثم المرجع في المعرفة النحو إلى التلقي من أفواه العلماء الماهرين فيه والنظر في الكتب المعتمدة في ذلك من كتب المتقدمين والمتأخرين‏.‏

واعلم أن كتب النحو‏:‏ من المبسوطات والمختصرات والمتوسطات أكثر من أن يأخذها الحصر‏.‏

ومن الكتب المعتمدة في زماننا عند أبناء المشرق المفصل للزمخشري والكافية لابن الحاجب‏.‏

وعند المصريين كتب ابن مالك‏:‏ كالتسهيل والكافية الشافية والألفية وغير ذلك من كتب ابن مالك وغيرها‏.‏

قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وقد صار أكثر الناس يطعن على متعلمي العربية جهلاً وتعدياً حتى إنهم يحتجون بما يزعمون أن القاسم بن مخيمرة قال‏:‏ النحو أوله شغل وآخره بغي قال‏:‏ وهذا كلام لا معنى له لأن أول الفقه شغل وأول الحساب شغل وكذا أوائل العلوم‏.‏

أفترى الناس تاركين العلوم من أجل أن أولها شغل‏.‏

قال‏:‏ وأما قوله وآخره بغي إن كان يريد به أن صاحب النحو إذا حذقه صار فيه زهو واستحقر من يلحن فهذا موجود في غيره من العلوم‏.‏

من الفقه وغيره في بعض الناس وإن كان مكروهاً وإن كان يريد بالبغي التجاوز فيما لا يحل فهذا كلام محال فإن النحو إنما هو العلم باللغة التي نزل لها القرآن وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أهل الجنة وكلام أهل السماء‏.‏

ثم قال بعد كلام طويل‏:‏ وقد كان الكتاب فيما مضى أرغب الناس في علم النحو وأكثرهم تعظيماً للعلماء حتى دخل فيهم من لا يستحق هذا الاسم فصعب عليه باب العدد فعابوا من أعرب الحساب وبعدت عليهم معرفة الهمزة التي ينضم وينفتح ما قبلها أو تختلف حركتها وحركة ما قبلها فيكتبون‏:‏ يقرؤه بزيادة ألف لا معنى لها في كلام آخر يتعلق بالهجاء ليس هذا موضع لذكره‏.‏

أما التعمق في الإعراب والمبالغة فيه فإن حكمه في الاستكراه حكم التقعر في الغريب وقد كانوا يذمون من يتعاناه ويسخرون بمن يتعاطاه‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ خاصم عيسى بن عمر النحوي رجلاً إلى بلال بن أبي بردة فجعل عيسى يشبع الإعراب ويتعمق في الألفاظ وجعل الرجل ينظر إليه فقال له القاضي‏:‏ لأن يذهب بعض حق هذا أحب إليه من تركه الإعراب فلا تتشاغل به واقصد بحجتك‏.‏

وخاصم نحوي نحوياً آخر عند بعض القضاة في دين عليه فقال‏:‏ أصلح الله القاضي‏!‏ لي على هذا درهمان فقال خصمه‏:‏ والله أصلحك الله‏!‏ إن هي إلا ثلاثة دراهم ولكنه لظهور الإعراب ترك من حقه درهماً‏.‏

فهذا وشبهه قد صار مذموماً والمتشبث به ملوماً ولذلك كان بعض الكتاب لشدة اقتداره على الإعراب يعرب كلامه ولا يخيل إلى السامع أنه يعرب فإن عرض مع التعمق في الإعراب لحن كان ذلك أبلغ في الشناعة وأجدر بتوجه اللوم على صاحبه والسخرية من المتكلم به‏.‏

وقد قال الجاحظ‏:‏ إن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتشديق والتمطيط والجهورية والتفخيم‏.‏

وقال وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طريق السابلة وبقرب مجامع الأسواق‏.‏

وعلى الجملة فالنحو لا يستغنى عنه ولا يوجد بد منه إذ هو حلي الكلام وهو له كما قيل كالملح في الطعام‏.‏

قال في المثل السائر‏:‏ والجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة ولكنه يقدح في الجهل به نفسه لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه وهم الناطقون باللغة فوجب اتباعهم ولذلك لم ينظم الشاعر شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول أو ما جرى مجراهما وإنما عرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتصفين بصفة الفصاحة والبلاغة‏.‏

قال‏:‏ ولذلك لم يكن اللحن قادحاً في نفس الكلام‏:‏ لأنه إذا قيل جاء زيد راكب بالرفع لو لم يكن حسناً إلا بأن يقال جاء زيد راكباً بالنصب لكان النحو شرطاً في حسن الكلام وليس كذلك فتبين أنه ليس الغرض من نظم الشعر إقامة إعراب كلماته وإنما الغرض أمر وراء ذلك وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من المنثور مع ما حكي أن اللحن وقع لجماعة من الشعراء المتقدمين في شعرهم كقول أبي نواس في محمد الأمي‏:‏ يا خير من كان من يكون إلا النبي الطاهر المأمون فرفع المستثنى من الموجب وكقول المتنبي‏:‏ أرأيت همة ناقتي في ناقة نقلت يداً سرحاً وخفاً مجمرا تركت دخان الرمث في أوطانها طلباً لقوم يوقدون العنبرا وتكرمت ركباتها عن مبرك تقعان فيه وليس مسكاً أذفرا فجمع في حالة التثنية لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان وقد قال ركباتها‏.‏

واعلم أن اللحن قد فشا في الناس والألسنة قد تغيرت حتى صار التكلم بالإعراب عيباً والنطق بالكلام الفصيح عياً‏.‏

قلت‏:‏ والذي يقتضيه حال الزمان والجري على منهاج الناس أن يحافظ على الإعراب في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وفي الشعر والكلام المسجوع وما يدون من الكلام ويكتب من المراسلات ونحوها ويغتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم مما يتداولونه بينهم ويتحاورون به في مخاطباتهم وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام مذ فسدت الألسنة وتغيرت اللغة حتى حكي أن الفراء مع جلالة قدره وعلو رتبته في النحو دخل يوماً على الرشيد فتكلم بكلام لحن فيه فقال جعفر بن يحيى‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه قد لحن فقال الرشيد للفراء أتلحن يا يحيى فقال يا أمير المؤمنين‏!‏ إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع لحنت فاستحسن الرشيد كلامه‏.‏

وقد قال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين‏:‏ ومتى سمعت حفظك الله نادرة من كلام الإعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها فإنك إن غيرتها بأن لحنت في إعرابها أو أخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير وإن سمعت نادرة من نوادر العوام وملحة من ملحهم فإياك أن تستعمل لها الإعراب أو تتخير لها لفظاً حسناً فإن ذلك يفسد الإمتاع بها ويخرجها من صورتها التي وضعت لها ويذهب استطابتهم إياها‏.‏

قال‏:‏ واللحن من الجواري الظراف ومن الكواعب النواهد ومن الشواب الملاح ومن ذوات الخدور أيسر وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف ولكن إذا كان اللحن على سجية سكان البلد كما يستملحون اللثغاء إذا كانت حديثة السن فإذا أسنت واكتهلت سئم ذلك الاستملاح‏.‏

قال‏:‏ وممن استملح اللحن في النساء مالك بن أسماء فقال في بعض نسائه‏:‏ أمغطى مني على بصري للحب أم أنت أكمل الناس حسنا وحديث ألذه هو مما تشتهيه الأسماع يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا ناً وخير الحديث ما كان لحنا والناس في ذلك كله بحسب البلاد وأهلها ألا ترى أن العرب وإن تغيرت ألسنتهم بمخالطة من عداهم فإنهم لا يخلو كلامهم من موافقة الإعراب في بعض الكلام والجري على قواعد العربية خصوصاً عرب الحجاز وأهل البادية منهم‏.‏

وقد قال الجاحظ في أثناء كلامه ولأهل المدينة ألسنة ذلقة وألفاظ حسنة وعبارة جيدة واللحن في عوامهم فاش وعلى من لم ينظر منهم في النحو غالب‏.‏

المقصد الثاني في كيفية تصرف الكاتب في علم العربية واعلم أن انتفاع الكاتب بالنحو من وجهين‏:‏ أحدهما الإعراب وما يلحق به ومن أهم ما يعتنى به من ذلك النسب لكثرة استعماله في الألقاب ونحوها وكذلك العدد فإنه مما يقع فيه اللبس على المبتدئ ومحل ذلك كله كتب النحو‏.‏

الثاني فيما يقع الكاتب فيه بطريق العرض فيحتاج من ذلك إلى معرفة النحاة ومشاهير أهل العربية كأبي الأسود الدؤلي و سيبويه والفراء وأبي علي وأبي عثمان المازني وغيرهم من المتقدمين وابن عصفور وابن مالك وابن معطي وغيرهم من المتأخرين وكذلك أسماء كتبهم المشهورة في هذا الفن‏:‏ من المبسوطات والمختصرات من كتب المتقدمين والمتأخرين ومصطلحاتهم التي اصطلحوا عليها‏:‏ من ذكر الاسم والفعل والمعرفة والنكرة والمبتدأ والخبر والحال والتمييز وألقاب الإعراب‏:‏ من الرفع والنصب والجر والجزم وغير ذلك مما تجري به عباراتهم ويدور على ألسنتهم في استعمالاتهم من قولهم ضرب زيد عمراً ونحو ذلك ليدرج ما عن له من ذلك في خلال كلامه حيث احتاج إليه في التواقيع والمكاتبات وغيرها‏.‏

قال في التعريف في وصية نحوي‏:‏ وهو زيد الزمان الذي يضرب به المثل وعمرو الأوان وقد كثر من سيبويه الملل ومازني الوقت لكنه لم يستبح الإبل وكسائي الدهر الذي لو تقدم لما اختار غيره الرشيد للمأمون وذو السؤدد لا أبو الأسود على أنه ذو السابقة والأجر الممنون‏.‏

وهو ذو البر المأثور والقدر المرفوع ولواؤه المنصوب وذيل فخاره المجرور‏.‏

والمعروف بما لا ينكر لمثله من الحزم والذاهب عمله الصالح بكل العوامل التي لم يبق منها لسحوده إلا الجزم‏.‏

وهو ذو الأبنية التي لا يفصح عن مثلها الإعراب ولا يعرف أفصح منها فيما أخذ عن الأعراب‏.‏

والذي أصبحت أهدابه فوق عمائم الغمائم ثلاث ولم يزل طول الدهر يشكر منه أمسه ويومه وغده وإنما الكلمات ثلاث‏.‏

فليتصد للإفادة وليعلمهم مثل ما ذكر فيه من علم النحو نحو هذا وزيادة‏.‏

وليكن للطلبة نجماً به يهتدي وليرفع بتعليمه قدر كل حبر يكون حبراً له وهو المبتدأ‏.‏

وليقدم منهم كل من صلح للتبريز واستحق أن ينصب إماماً بالتمييز‏.‏

وليورد من موارده أعذب النطاف وليجر إليه كل مضاف إليه ومضاف‏.‏

وليوقفهم على حقائق الأسما ويعرفهم دقائق البحوث حتى اشتقاق الاسم هل هو من السمو أو من السما‏.‏

وليبين لهم الأسماء العجمية المنقولة والعربية الخالصة ويدلهم على أحسن الأفعال لا ما يتشبه بصفات كان وأخواتها من الأفعال الناقصة وليحفظهم المثل وكلمات الشعراء ولينصب نفسه لحد أذهان بعضهم ببعض نصب الإغراء‏.‏

وليعامل جماعة المستفيدين منه بالعطف ومع هذا كله فليترفق بهم فما بلغ أحد علماً بقوة ولا غاية بعسف‏.‏

وكما قال الشيخ جمال الدين بن نباته رحمه الله من جملة توقيع مدرس‏:‏ ولأنه في البيان ذو الانتقاد والانتقاء‏.‏

والعربي الذي كان لرقاب الفضلاء ابن مالك فإن قريبه أبو البقاء‏.‏

وكما كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في رسالة اقترحت عليه في هذا الباب وهي‏:‏ حرس الله نعمة مولاي‏!‏ ولا زال كلم السعد من اسمه وفعله وحرف قلمه يأتلف ومنادي جوده لا يرخم وأحمد عيشه لا ينصرف ولا عدم مستوصل الرزق من براعته التي لا تقف الوصل ولا عدمت نحاة الجود من نواله كل موزون ومعدود ومن فضله وظله كل مقصور وممدود‏.‏

ولا خاطبت الأيام ملتمسه إلا بلام التوكيد ولا عدوه إلا بلام الحجود هذه المفاوضة إليه أعزه الله‏!‏ تفهمه أنا بلغنا أن فلاناً أضمر سيدنا له فعلاً غدا به منتصباً للمكايد ومعتلاً وليس موصولاً كالذي بصلة وعائد‏.‏

وما ذاك إلا لأن معرفتها داخلها التنكير‏.‏

وقدر لها من الاحتمالات أسوأ التقدير‏.‏

ونعوت صحبته تكررت فجاز قطعها بسبب ذلك التكرير‏.‏

وسيدنا يعلم بالعلمية المدكون من الإنافة وما لإضافته إلى جلالته من الانتماء الذي يجب أن يكون لأجله عيشه به خفضاً على الإضافة‏.‏

وكان الظن أن الأشغال التي جمعت له لا تكون جمع تكسير بل جمع سلامة وآية لا تكلف تعليماً على وصول لأنه في الديوان كالحرف لا يخبر به ولا عنه والحرف لست له علامة‏.‏

وحاش لله‏!‏ أن يصبح معرب إحسانه مبنياً وأن نزيل كرمه يكون للنكرات بأي محكياً أو أن يأتي سيدنا بالماضي من الأفعال في معنى الاستقبال‏.‏

أو أن يجعل بدل غلطه الإبدال للاشتمال أو يدغم من مودته مظهرا أو أنه لا يجعل لمبتدأ محبته مخبرا أو أن لا يكون له من أبنية تدبير سيدنا مصدرا ولا برح سيدنا نسيج وحده في أموره‏!‏ ولا زال حلمه يتناسى الهفوات لا يشتغل مفعوله عن فعله بضميره‏.‏

النوع الرابع المعرفة بالتصريف ويجب على الكاتب المعرفة به ليعرف أصل الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها فيتصرف فيها بالجمع والتصغير والنسبة إلهيا وغير ذلك‏:‏ لأنه إذا أراد جمع الكملة أو تصغيرها أو النسبة إليها ولم يعرف الأصل في حروف الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها ضل حينئذ عن السبيل ونشأ من ذلك مجال للعائب والطاعن‏.‏

قال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر‏:‏ وتظهر لك فائدة ذلك ظهوراً واضحاً فيما إذا قيل للنحوي الجاهل بعلم التصريف كيف تصغير لفظة اضطراب فإنه يقول ضطيريب ولا يلام في ذلك لأنه الذي تقتضيه صناعة النحو لأن النحاة يقولون إذا كانت الكلمة على خمسة أحرف وفيها حرف زائد أو لم يكن حذفته منها نحو قولهم في منطلق مطيلق وفي جحمرش جحيمرش‏.‏

ولفظة منطلق على خمسة أحرف وفيها حرفان زائدان هما الميم والنون إلا أن الميم زيدت فيها لمعنى فلذلك لم تحذف وحذفت النون وأما لفظة جحمرش فخماسية لا زيادة فيها وحذف منها حرف أيضاً‏.‏

فإذا بنى النحوي على هذا الأصل فإما أن يحذف من لفظة اضطراب الألف أو الضاد أو الطاء أو الراء أو الباء‏.‏

وهذه الحروف غير الألف ليست من حروف الزيادة فلا تحذف بل الأولى أن يحذف الحرف الزائد ويترك الحرف الأصلي فيصغر لفظة اضطراب حينئذ على ضطيريب ولم يعلم النحوي أن الطاء في اضطراب مبدلة من تاء وأنه إذا أريد تصغيرها تعاد إلى الأصل الذي كانت عليه‏.‏

فيقال ضتيريب فإن هذا مما لا يعلمه إلا التصريفي والنحاة أطلقوا ما أطلقوه من ذلك اتكالاً منهم على تحقيقه من علم التصريف إذ كل من النحو والتصريف علم منفرد برأسه فتكليف النحوي الجاهل بعلم التصريف إلى معرفة ذلك كتكليفه ما ليس من علمه‏.‏

قال‏:‏ فثبت بما ذكر أن علم التصريف مما يحتاج إليه لئلا يغلط في مثل ذلك‏.‏

قال‏:‏ ومن العجب أن يقال إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف وهذا نافع بن أبي نعيم وهو من أكبر القراء السبعة قدراً وأفخمهم شأناً قد قال في معايش معائش بالهمز وهذه اللفظة مما لا يجوز همزه بإجماع من علماء العربية‏:‏ لأن الياء فيها ليست مبدلة من همزة وإنما الياء التي تبدل من الهمزة في هذا الموضع تكون بعد ألف الجمع المانع من الصرف ويكون بعدها حرف واحد ولا يكون عيناً نحو سفائن ولم يعلم نافع الأصل في ذلك فأخذ عليه وعيب عليه من أجله وذلك أنه اعتقد أن معيشة على وزن فعيلة تجمع على فعائل ومن ينظر إلى أن الأصل في معيشة معيشة على وزن مفعلة لأن أصل هذه الكلمة من عاش لكن أصلها عيش على وزن فعل ويلزم مضارع فعل المعتل العين يفعل لتصح الياء نحو يعيش ثم تنتقل حركة العين إلى الفاء فتصير يعيش ثم يبني من يعيش مفعول فيقال معيوش به كما يقال مسيور به ثم يخفف ذلك بحذف الواو فيقال معيش به كما يقال مسير به ثم تؤنث هذه اللفظة فتصير معيشة‏.‏

ومن جملة من عابه أو عثمان المازني فقال في كتابه في التصريف‏:‏ إن نافعاً لم يدر ما العربية‏.‏

وحكى أبو جعفر النحاس أن عبيد الله بن سليمان نظر في بعض كتب الكتاب فإذا فيه حرف مصلح هو‏:‏ وقد لهوت عن جباية الخراج فاغتاظ وقال لا يحكه غيري فحكه فأصلحه‏:‏ وقد لهيت بالياء بدل الواو‏.‏

قال وحكي عن أحمد بن إسرائيل مع تقدمه في الكتابة أنه قال‏:‏ وكانت رسومهم مساناة ثم صارت مشاهرة ثم صارت مياومة ثم صارت مساعاة فأخطأ وكطان يجب أن يقول مساوعة‏.‏

قال في المثل السائر‏:‏ وكثيراً ما يقع أهل العلم في مثل هذه المواضع فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ولا إطلاع لهم عليها وإذا علم حقيقة الأمر في ذلك لم يقع الغلط فيما يوجب قدحاً ولا طعناً قال‏:‏ وقد وقع الغلط لأبي نواس فيما وهو أظهر من ذلك كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها وإنما يجوز حذفها من فعلى التي لا أفعل لها نحو حبلى إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة وها هنا قد عريت عن الإضافة وعن الألف واللام وكان الصواب أن يقال‏:‏ كأن الصغرى والكبرى أو كأن صغراها وكبراها‏.‏

فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته وغلط أبو تمام أيضاً في قوله‏:‏ بالقائم الثامن المستخلف اطأدت قواعد الملك ممتداً لها الطول فقال اطأدت والصواب اتطدت لأن التاء تبدل من الواو في موضعين أحدهما مقيس عليه كهذا الموضع‏:‏ لأنك إذا بنيت افتعل من الوعد قلت اتعد وكذلك اتطدت في البيت فإنه وطد يطد كما يقال وعد يعد فإذا بني منه افتعل قيل اتطدت ولا يقال اطأد وأما غير المقيس فقولهم في وجاه تجاه وقالوا تكلان وأصله الواو لأنه من وكل فأبدلت الواو تاء للاستحسان‏.‏

ثم قال‏:‏ إن المخطئ في التصريف أندر وقوعاً من المخطئ في النحو لأنه قلما تقع له كلمة يحتاج في استعمالها إلى الإبدال والنقل في حروفها‏.‏

والمعصوم من عصمه الله والكلام في تصرف الكاتب في التصريف على ما تقدم في النحو‏.‏

المعرفة بعلوم المعاني والبيان والبديع وفيه مقصدان المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك اعلم أنه لما كانت صناعة الكتابة مبنية على سلوك سبل الفصاحة واقتفاء سنن البلاغة وكانت هذه العلوم هي قاعدة عمود الفصاحة ومسقط حجر البلاغة اضطر الكاتب إلى معرفتها والإحاطة بمقاصدها‏.‏

ليتوصل بذلك إلى فهم الخطاب وإنشاء الجواب جارياً في ذلك على قوانين اللغة في التركيب مع قوة الملكة على إنشاء الأقوال المركبة المأخوذة عن الفصحاء والبلغاء من الخطب والرسائل والأشعار من جهة بلاغتها وخلوها عن اللكن وتأدية المطلوب بها وتكميل الأقاويل الشعرية نثراً كانت أو نظماً في بلوغها غايتها وتأدية ما هو مطلوب بها وأنها كيف تتعين بحسب الأغراض لتفيد ما يحصل بها من التخيل الموجب لانتقال النفس من بسط وقبض والشيء يذكر بضده فيذكر المحاسن بالذات والعيوب بالعرض‏.‏

قال أبو هلال العسكري‏:‏ فإن صاحب العربية إذا أخل بطلب هذه العلوم وفرط في التماسها فاتته فضيلتها وعلقت به رذيلة فوتها وعفى على جميع محاسنه وعمى سائر فضائله لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد وآخر رديء ولفظ حسن وآخر قبيح وشعر نادر وآخر بارد بان جهله وظهر نقصه وإذا أراد أن ينشئ رسالة أو يضع قصيدة وقد فاتته هذه العلوم مزج الصفو بالكدر وخلط الغرر بالعرر فجعل نفسه مهزأة للجاهل وعبرة للعاقل‏.‏

وكذلك إذا أراد تصنيف كلام منثور أو تأليف شعر منظوم وتخطى هذه ساء اختياره وقبحت آثاره فأخذ الرديء المردود وترك الجيد المقبول فدل على قصور فهمه وتأخر معرفته‏.‏

مع ما في هذه العلوم الثلاثة من الوسيلة إلى فهم كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين منهما يستمد الكاتب شريف المعاني ويستعير فصيح الألفاظ بل منهما تستفاد سائر العلوم وتقتبس نفائس الفضائل‏.‏

قال‏:‏ وقبيح لعمري بالقيه المؤتم به والقارئ المقتدى بهديه والمتكلم المشار إليه في حسن مناظرته وتمام آلته في مجادلته وشدة شكيمته في حجاجه وبالعربي الصليب والقرشي الصريح أن لا يعرف فهم إعجاز كتاب الله إلا من الجهة التي يعرفها منها الزنجي والنبطي وأن يستدل عليه بما يستدل به الجاهل الغبي‏.‏

على أن الشيخ بهاء الدين السبكي رحمه الله قد ذكر في شرح تلخيص المفتاح أن أهل مصر لا يحتاجون إلى هذه العلوم وأنهم يدرونها بالطبع فقال في أثناء خطبته‏:‏ أما أهل بلادنا فهم مستغنون عن ذلك بما طبعهم الله تعالى عليه من الذوق السليم والفهم المستقيم والأذهان التي هي أرق من النسيم وألطف من ماء الحياة في المحيا الوسيم أكسبهم النيل تلك الحلاوة وأشار إليهم بأصابعه فظهرت عليهم هذه الطلاوة فهم يدركون بطباعهم ما أفنت فيه العلماء فضلاً عن الأغمار الأعمار ويرون في مرآة قلوبهم الصقيلة ما احتجب من الأسرار خلف الأستار‏.‏

والسيف ما لم يلف فيه صيقل من طبعه لم ينتفع بصقال فيا لها غنيمة لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب ولم يزحف إليها بعدو عيدية ولا بلحقا لاحق وانسكاب سكاب فلذلك صرفوا هممهم إلى العلو التي هي نتيجة أو مادة لعمل البيان كاللغة والنحو والفقه والحديث وتفسير القرآن‏:‏ ثم قال‏:‏ وأما أهل بلاد الشرق الذين لهم اليد الطولى في العلوم ولا سيما العلوم العقلية والمنطق فاستوفوا هممهم الشامخة في تحصيله واستولوا بجدهم على جملته وتفصيله‏.‏

ووردوا مناهل هذا العلم فصدروا عنها بملء سجلهم وكيف لا وقد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم‏.‏

فلذلك عمروا منه كل دارس وعبروا من حصونه المشيدة ما رقد عنها الحارس‏.‏

وبلغوا عنان السماء في طلبه ولو كان الدين في الثريا لناله رجال من فارس‏.‏

إلى أن خرج عنهم المفتاح فكأن الباب أغلق دونهم وظهر من مشكاة بلاد الغرب المصباح فكأنما حيل بينه وبينهم‏.‏

وأدارت المنون على قطبهم الدوائر فتعطلب بوفاته من علومه أفواه المحابر وبطون الدفاتر‏.‏

وانقطعت زهراتهم الطيبة عن المقتطف وتسلط على العضد لسان من يعرف كيف تؤكل الكتف‏.‏

فلم نظفر بعد هؤلاء الأئمة رحمهم الله من أهل تلك البلاد بمن مخض هذا العلم فألقى للطالب زبدته ومحض النصح فنشر على أعطاف العاري بردته ولا حملت قبول القبول إلينا عنهم بطاقة ولا حصلت للمتطلعين لهذا العلم على تلك الأبواب طاقة ولا رأينا بعد أن أنطمست تلك الشموس المشرقة واندرست طبقة تحري الفرقة ولم يبق إلا رسوم هي من فضائلهم مسترقة‏.‏

من أطلع غصن قلمه من روض الأذهان زهرة على ورقة ولا من علق شنه بطبقتهم فيقال وافق شن طبقة بل ركدت بينهم في هذا الزمان ريحه وخبت مصابيحه وناداهم الأدب سواكم أعني‏:‏ ورب كلمة تقول دعني‏.‏

وما بعض الإقامة في ديار يهان بها الفتى إلا بلاء فعند ذلك أزمع هذا العلم الترحل وآذن بالتحول‏.‏

وإذا الكريم رأى الخمول نزيله في منزل فالرأي أن تيحولا وفزع إلى مصر فألقى بها عصا التسيار وأنشد من نادى من تلك الديار‏.‏

أقمت بأرض مصر فلا ورائي تخب بي الركاب ولا أمامي ولقد أحسن رحمه الله في بيان السبب والتعويل في انجبال أهل مصر على هذا العلم على علاقة الصهر والنسب حيث قال في أوائل خطبته في أثناء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما خفقت للبلاغة راية مجد في بني غالب بن فهر وتعلقت بأزمة الفصاحة أهل مصر‏:‏ لما لهم من نسب وصهر‏.‏

قال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في كتابه حسن التوسل إلى صناعة الترسل‏:‏ وهذه العلوم وإن لم يضطر إليها ذو الذهن الثاقب والطبع السليم والقريحة المطاوعة والفكرة المنقحة والبديهة المجيبة والروية المتصرفة لكن العالم بها متمكن من أزمة المعاني وصناعة الكلام يقول عن علم ويتصرف عن معرفة وينتقد بحجة ويتخير بدليل ويستحسن ببرهان ويصوغ الكلام بترتيب‏.‏

وحقيق ما قاله‏.‏

فإن الأديب والكاتب العاريين عن هذه العلوم قاصران عن أدنى رتب الكمال يحيدان ولا يدريان كيف يجيبان فلو سئل كل منهما عن علة معنى استحسنه أو لفظ استحلاه أو تركيب استجاده لم يقدر على الإتيان بدليل على ذلك‏.‏

وقد حكى الإمام عبد القادر الجرجاني قال‏:‏ ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له‏:‏ إني أجد في كلام العرب حشو - فقال له أبو العباس في أي موضع - قال‏:‏ وجدت العرب تقول عبد الله قائم ثم يقولون إن عبد الله قائم ثم يقولون إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد فقال له أبو العباس‏:‏ لا بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وقولهم إن عبد الله لقائم جواب على إنكار منكر قيامه فما أحار المتفلسف جواباً‏.‏

فإذا ذهب مثل هذا على الكندي فما الظن بغيره وإن كان من محاسن الكلام ما لا يحكم في امتزاجه بالقلوب غير الذوق الصحيح كما قال الشاعر‏:‏ شيء به فتن الورى غير الذي يدعى الجمال ولست أدري ما هو لكن الغالب في الكلام أن يعلم سبب تحسينه وتعليل مواد تمكينه ويجاب عن العلة في انحطاطه وارتفاعه ويذكر المعنى في ارتقائه من حضيض القول إلى يفاعه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا العلم وإن شحن أئمة الكتاب‏:‏ كما قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين والوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل فإنه ليس مختصاً بفن الكتابة هو آلة لكل كلام اقتضى البلاغة كما أن المنطق آلة لكل العلوم العقلية التي يحتاج منها إلى تصحيح الفكر‏.‏

وقد كثر الناس من المصنفات فيه كالرماني والجرجاني وغيرهما وأكثر اعتماد أهل الزمان فيه على تلخيص المفتاح للقاضي جلال الدين القزويني فأغنى ما وضع فيه عن إيراده هنا‏.‏

المقصد الثاني في كيفية انتفاع الكاتب بهذه العلوم غير خاف أنه إذا مهر فيه وعرف طرقه أتى في كلامه بالسحر الحلال صاغ من ألفاظه ومعانيه ما يقضي له بالفصاحة التامة والبلاغة الكاملة من وجوه تحقيق الكلام وتحسينه وتدبيجه وتنميقه وإذا فاتته هذه العلوم أو كان ناقصاً فيها نقصت صناعته بقدر ما ينقص من ذلك‏.‏

ثم كما يحتاج إلى هذه العلوم بطريق الذات كذلك يحتاج إليها بطريق العرض من جهة المعرفة بالبلغاء الذين يضرب بهم المثل في البلاغة كقس بن ساعدة وسحبان وائل وعمرو بن الأهتم ونحوهم من بلغاء العرب وابن المقفع ونحوه من المحدثين‏.‏

وكما قيل في عي باقل - وهو رجل انتهى به العي إلى أنه اشترى ظبياً بأحد عشر درهما فسأله سائل في الطريق وهو ممسك الظبي‏:‏ بكم اشتريته فلم يحسن التعبير عن أحد عشر ففرق أصابعه العشرة وأخرج لسانه مشيراً إلى أحد عشر فتفلت الظبي وفر هارباً‏.‏

وكمعرفة أئمة الصناعة‏:‏ كالجرجاني والرماني‏.‏

وكذلك المعرفة بالأسماء التي اصطلح عليها أهلها من الفصل والوصل والتشبيه كما تقدم والمقابلة والمطابقة وغير ذلك من أنواعها‏.‏

أما أحتياجه إلى المعرفة بأسماء البلغاء ولغة أهل الصناعة فلأنه ربما احتاج إلى تفضيل بعض من يكتب له ممن ينسب مثله إلى البلاغة فيفضله بمساواته لبليغ من البلغاء أو إمام من أئمة الصنعة‏:‏ كما كتب الوزير ضياء الدين بن الأثير في ذم كاتب‏:‏ هذا وهو يدعي أنه في الفصاحة أتانا وما داناه سحبان وائل بياناً وعلماً بالذي هو قائل فما زال عند اللقم حتى كأنه من العي لما أن تكلم باقل ومما أتى على ذكر جماعة من أهل هذا الشأن قولي في كلام قليل جاء ذكره في آخر رسالة كتبت بها في تقريظ المقر الفتحي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالأبواب السلطانية بالديار المصرية - وهو‏:‏ على أني أستقيل من التقصير في إطرائه والتعرض في مدحه لما لا أنهض بأعبائه‏.‏

فلو أن الجاحظ نصيري وابن المقفع ظهيري وقس بن ساعدة يسعدني وسحبان وائل ينجدني وعمرو بن الأهتم يرشدني لكان اعترافي بالتقصير أبلغ مما آتيه وإقراري بالقصور أولى مما أخفيه من توالي طوله وأياديه‏.‏

وأما احتياجه إلى معرفة ألفاظ أهل الصناعة فلأنه ربما ورى بها في تفاصيل كلامه ونحو ذلك كما كتب الشيخ زين الدين أبو بكر بن العجمي على البديعية التي نظمها عيسى العالية الشاعر مضاهياً بها بديعية الصفي الحلي فقال‏:‏ وبعد فقد وقفت على هذه المعجزة التي أحيا بها عيسى ميت البديع وجود ما شاء فيها من التصريع والترصيع ورقم لأعطافها حلل التوشيح والتوشيع ونظم لأجياد أبياتها فرائد المعاني المستخرجة من بحر فكره على يد يراعه المريع وقلدها من درر لفظه بما هو أزهى من زهر الزهر على نهر المجرة وهالات البدور وشنف المسامع منها بما هو أبهى من النور في العيون وأوقع من الشفاء في الصدور وأولج الليل في النهار بما طرس به الطروس وأطلع في ذلك الليل من ناصع معانيه نجوماً تزهي على الشموس وأودع المهارق شذوراً تزيف ذهب الأصائل وتسفر عن وجوه حسان تفوق ابتسام ثغور الأزاهر بين الخمائل وسلك في البديع طريقة مثلى أظهر فيها من شهد ألفاظه وجواهر معانيه ما حلا وحلى ولم يدع للحلي في بهجتها محلاً وأحسن التذييل والترشيح والتهلكم عليه من غير التفات لما أهمله ولم يتعرض إليه وعادت المعاني تأوي من حسن تصرفه إلى ركن شديد وتحوي بشبا أقلامه كل ما رامه من تأبيد التأبيد وتلقي مقاليدها منه إلى ملي بحسن التحليل والتحول في نظمه ونثره وتحكم لمن حكم له بكمال وصفه ووصف كماله بأنه نسيج وحده وفريد عصره وأجرى في حلبة البديع جياد أقلامه فحاز قصب الرهان وأصفى لها موارد النفس فارتوت واستخرجت من ظلماته جواهر البيان ونطقت بما هو المألوف من غرائب حكمه الحسان وتأملتها فوجدتها قد أجاد فيها براعة المطلع وبالغ في تحسين المنزع والمقطع ودخل جنان الجناس فاجتنى من قطوفها الدانية ما راق واطردت له أنهارها فاستطرد منها في أعلى الطباق وقابل وجوه حورها أحسن المقابلة آمناً فيها من الاشتراك والمماثلة وأوضح الفروق بين التورية والإبهام والتوجيه والاستخدام وأبان في التتميم نقص أبي تمام وأودب في إبهامه عقد الخناصر على نظمه وفوض بنزاهته التسليم له وطلب سلمه ولم يقنع بما فيه الاكتفاء من التذييل والتذنيب بل أتى في الاستدارك على من تقدمه بالعجب العجيب معتمداً في تكميل مقاصده الاقتصار والإيجاز ولو ادعى الإعجاز على الحقيقة لا المجاز لجاز وتحققت أن ليس له في هذا الفن مقاو ولا مقاوم ولا مساو ولا مساوم فكم جلب من بحر براعته درة أشرقت في ليالي الفترة المسودة وكم حلب من ثدي يراعته درة لها ألف زبدة وكم بلغ الناظر من وصف بيانه مجمع البحرين وسمع ورأى من فصله الجزل وفضله الجزيل ما هو عين المراد ومراد العين وكم جلا من عرائس أفكاره وابتكاره صباح الوجوه الصباح وخفق في الخافقين لمقاصده وبصائره جناح النجاح‏.‏

وقد أصبحت كلماته لخصور الفرائد مناطق ولبدور الفوائد مشارق ولطلائع أسرار المباني آلات ولمطالع أقمار المعاني هاللات وقد وقعت حين وقفت على بديعيته هذه بين داءين كل منهما الأخطر وبين أمرين أمرين كل منهما الأعسر إن لم أكتب عليها شئياً فقد أخللت بالفرض الواجب وإن كتبت فقد فضحت نفسي وعرضتها للمعايب ولكني رحت على ظلعي متحاملاً وغدوت على حسب طاقتي في هذا الباب قائلاً‏:‏ عاش البديع وكان ميتاً وانثنى بادي المحاسن زاهياً محروسا النوع السادس حفظ كتاب الله العزيز وفيه مقصدان المقصد الأول في بيان احتياج الكاتب إلى ذلك في كتابته قال في حسن التوسل‏:‏ ولا بد للكاتب من حفظ كتاب الله تعالى وإدامة قراءته وملازمة درسه وتدبر معانيه حتى لا يزال مصوراً في فكره دائراً على لسانه ممثلاً في قلبه ليكون ذاكراً له في كلامه وكل ما يرد عليه من الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها ويفتقر إلى قيام قواطع الأدلة عليها ‏"‏ فلله الحجة البالغة ‏"‏ وكفى بذلك معيناً له على قصده ومغنياً له عن غيره‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ما فرطنا في الكتاب من شيء ‏"‏ وقال جل وعز ‏"‏ تبياناً لكل شيء ‏"‏‏.‏

قال في المثل السائر‏:‏ كان بعضهم يقول‏:‏ لو ضاع لي عقال لوجدته في القرآن الكريم‏.‏

قال في حسن التوسل‏:‏ وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس في محاوراتهم ومخاطباتهم مع قصور كل لفظ ومعنى عنه وعجز الإنس والجن عن الإتيان بسورة من مثله كما حكي أن سائلاً سأل بعض العلماء أين تجد في كتاب الله معنى قولهم ‏"‏ الجار قبل الدار ‏"‏ قال في قوله تعالى ‏"‏ ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربي ابن لي عندك بيتاً في الجنة ‏"‏ فطلبت الجار قبل الدار ونظائر ذلك كثيرة‏.‏

وقد اختلف في جواز الاستشهاد بالقرآن الكريم في المكاتبات ونحوها‏:‏ فذهب أكثر العماء إلى جواز ذلك ما لم يحل عن لفظه ولم يتغير معناه‏.‏

فقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى هرقل ‏"‏ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ‏"‏ إلى قوله مسلمون وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في عهده لعمر بن الخطاب ‏"‏ ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم‏.‏

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ‏"‏ على ما سيأتي في ذكر عهود الخلفاء عن الخلفاء إن شاء الله تعالى‏.‏

وكتب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في آخر كتاب إلى معاوية وقد علمت مواقع سيوفنا في جدك وخالك وأخيك ‏"‏ وما هي من الظالمين ببعيد ‏"‏‏.‏

وقال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية ‏"‏ وما كنت متخذ المضلين عضداً ‏"‏‏.‏

وكتب إلى عامل من عماله بعد البسملة ‏"‏ قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا المكيال والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ‏"‏‏.‏

وقال الحسن بن علي لمعاوية حين نازعه في الخلافة ‏"‏ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ‏"‏‏.‏

ويروى عن ابن عباس مثله‏.‏

وكتب الحسن إلى معاوية‏:‏ أما بعد فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة لعالمين وكافة للناس أجمعين ‏"‏ لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ‏"‏‏.‏

وكتب محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي إلى المنصور في صدر كتاب ‏"‏ طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ‏"‏‏.‏

ولم يزل العلماء وفضلاء الكتاب يستشهدون بالقرآن الكريم في مكاتباتهم في القديم والحديث من غير نكير وذلك كله دليل الجواز‏.‏

ونقل عن الحسن البصري ما يدل تعلى كراهة ذلك حيث بلغه أن الحجاج أنكر على رجل استشهد بآية فقال‏:‏ أنسي نفسه حين كتب إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ بلغني أن أمير المؤمنين عطس فشمته من حضر فرد عليهم ‏"‏ يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً ‏"‏‏.‏

قال في حسن التوسل‏:‏ وإذا صحت هذه الرواية عن الحسن فيمكن أن يكون إنكاره على الحجاج لكونه أنكر على غيره ما فعله هو‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن يكون إنكاره على الحجاج لكونه أنكر على غيره ما فعله هو‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن كل ما أراد الله به نفسه لا يجوز الاستشهاد به إلا فيما يضاف إلى الله سبحانه مثل قوله‏:‏ ‏"‏ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ‏"‏ وقوله ‏"‏ بلى ورسلنا لديهم يكتبون ‏"‏ ونحو ذلك مما يقتضيه الأدب مع الله تعالى‏.‏

قال في المثل السائر‏:‏ وإذا ضمنت الآيات في أماكنها اللائقة بها ومواضعها المناسبة لها فلا شبهة فيما يصير للكلام من الفخامة والجزالة والرونق‏.‏

قال في حسن التوسل‏:‏ ومن شرف الاستشهاد بالقرآن الكريم إقامة الحجة وقطع النزع وإذعان الخصم‏.‏

قال في حسن التوسل‏:‏ وأين قول العرب - القتل أنفى للقتل - لمن أراد الاستشهاد في هذا المعنى من قوله تعالى ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏ وقد روي أن الحجاج قال لبعض العلماء‏:‏ أنت تزعم أن الحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتني على ذلك بشاهد من كتاب الله تعالى وإلا قتلتك فقرأ عليه ‏"‏ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ‏"‏ فعيسى ابن بنته فأسكت الحجاج‏.‏

وأيضاً فإن الآية الواحدة تقوم في بلوغ الغرض وتوفية المقاصد ما لا تقوم به الكتب المطولة والأدلة القاطعة‏.‏

فمن أخصر ما وقع في ذلك وأبلغ أنه كان على الروم بهرقلة في أيام الرشيد امرأة منهم وكانت تلاطف الرشيد ولها ابن صغير فلما نشأ فوضت الأمر إليه فعاث وأفسد وخاشن الرشيد فخافت على ملك الروم فقتلت ولدها فغضب الروم لذلك فخرج عليها رجل منهم يقال له يقفور فقتلها واستولى على الملك وكتب إلى الرشيد‏:‏ أما بعد فإن هذه المرأة وضعتك موضع الشاه ووضعت نفسها موضع الرخ وينبغي أن تعلم أني أنا الشاه وأنت الرخ فأد إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك‏!‏ فلما قرأ الكتاب‏.‏

قال للكتاب‏:‏ أجيبوا عنه‏!‏ فأتوا بما لم يرتضه وكان الرشيد بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى يقفور كلب الروم‏.‏

أما بعد فقد فهمت كتابك والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام على من اتبع الهدى‏.‏

ثم خرج في جمع له لم يسمع بمثله فتوغل في بلاده وفتك وسبى فأوقد يقفور في طريقه ناراً شديدة فخاضها محمد بن يزيد الشيباني وتبعه الناس حتى صاروا من ورائها فلما رأى يقفور أنه لا قبل له به صالحه على الجزية يؤديها عن رأسه وعن سائر أهل مملكته‏.‏

وكتب ملك الروم إلى المعتصم يتوعده ويتهدده فأمر الكتاب أن يكتبوا جوابه فلم يعجبه مما كتبوا شيئاً فقال لبعضهم اكتب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت خطابك و الجواب ما ترى لا ما تسمع ‏"‏ وسيعلم‏ الكفار لمن عقبى الدار ‏"‏‏.‏

هذا مع ما ينسب إليه المعتصم من ضعف البصر بالعربية كما تقدم في الكلام على اللغة‏.‏

ولا يستكثر مثل ذلك على الطبع السليم والرجوع إلى سلامة العنصر وطيب المحتد‏.‏

ومثل ذلك في الجواب وأخصر منه أن الأدفونش ملك الفرنج بالأندلس كتب إلى يعقوب بن عبد المؤمن أمي المسلمين بالأندلس بخط وزير له يقال له ابن الفخار‏:‏ باسمك اللهم فاطر السموات والأرض والصلاة على السيد المسيح ابن مريم الفصيح أما بعد‏:‏ فلا يخفى على ذي ذهن ثاقب وعقل لازب أني أمير الملة النصرانية كما أنك أمير الملة الحنيفية وقد علمتم ما هم عليه رؤساء جزيرة الأندلس من التخاذل والتواكل والإخلاد إلى الراحة وأنا أسومهم الخسف وأخلي منهم الديار وأجوس البلاد وأسبي الذراري وأقتل الكهول والشبان لا يستطيعون دفاعاً ولا يطيقون امتناعاً فلا عذر لك في التخلف عن نصرهم وقد أمكنتك يد القدرة وأنتم تعتقدون أن الله عز وجل فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فلتقاتل عشرة منكم الواحد منا ثم بلغني أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة الإقبال وتماطل نفسك عاماً بعد عام وأراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ولست أدري إن كان الجبن أبطأك أو التكذيب بما أنزل عليك ربك ثم حكي لي أنك لا تجد إلى الجواز سبيلاً لعلة لا يجوز لك التفخم به معها فأنا أقول ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك على أن تفي لي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهن وترسل إلي بجملة من عبيدك بالمراكب والشواني وأجوز بحملتي إليك وأبارزك في اعز الأماكن عليك فإن كانت لك فغنيمة وجهت إليك وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك وأستوجب سيادة الملتين والحكم على الدينين والله تعالى يسهل ما فيه الإرادة ويوفق للسعادة لا رب غيره ولا خير إلا خيره‏.‏

فكتب رحمه الله جواباً على أعلى كتابه ‏"‏ ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم" ونظير ذلك أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتاباً يعدد فيه مواقفه في إقامة دعوة بني العباس بمصر‏.‏

فكتب جوابه من ديوان الخلافة ‏"‏ يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ‏"‏‏.‏